الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فنّ الحدائق في الصّين.. الانفصال عن عالم الغبار

فنّ الحدائق في الصّين.. الانفصال عن عالم الغبار
19 فبراير 2020 00:03

بقلم: يولان إيسكند
ترجمة: أحمد حميدة

مارس الشّاعر بو جويي (772-846) زمن حكم أسرة تانغ، دوراً أساسيّاً في انتشار الحدائق بالصّين. وفي قصيد «في كوخي عند جبل لو» الذي يعود إلى سنة 817، يبيّن هذا الأخير بوضوح المكانة الأساسيّة التي كانت للحديقة في حياته، والدّوافع التي كانت تحمله على إنشاء حديقة في كلّ مكان يكون قد أقام فيه:
«حين أقيم هنا، وأرفع رأسي، كانت تتراءى لي الجبال، وحين كنت أخفضها، كنت أنصت إلى وشوشة الماء المترقرق في الينابيع، وأنا أرامق من حولي القصب والأشجار والغيوم والصّخور. فمن إشرافة السّحر إلى حلول الغسق، كانت كلّ تلك العناصر تتناغي، فيتهادى إلى سمعي، من هنا ومن هناك، رجع صدى حسيسها، فإذا بالوجود النّابض من حولي يملأني غبطة، ويجعلني أستسلم لموسيقاه الخفيّة. بمضيّ ليلة واحدة كان يغمرني إحساس وارف باللّطافة والرّخاوة، وبمضيّ يومين.. كنت أشعر بالطّمأنينة، وبمرور اللّيلة الثّالثة، كنت أشعر بالغبطة تسري في كلّ ذرّة من كياني، فأجدني شاردا.. ذاهلا عن نفسي.»
«وحين أسائل نفسي عن سرّ ذلك الشّرود، أجدني أجيب: إنّه ذلك السّكن، والأرض المسطّحة التي تمتدّ أمامه، وتنتصب عند وسطها تلك المصطبة التي تشغل نصف مساحتها، إنّها تلك البركة المربّعة التي تحفّ بها غابات قصب البامبو والجبال والنّباتات البريّة، والتي تنتثر في وسطها زنابق الماء، والأسماك المزهوّة البيضاء».

الحكمة البالغة
لقد بدأ بو جويي بوصف ما كان يرى ويسمع، أي الجبال والمياه، ليوضّح بعد ذلك أنّه كان يصل إلى حالة الإغماء، حين كان يشعر بتلك السّعادة الغامرة، وهو داخل كوخه، محاطا بحديقة خضراء. وحين يحاول بيان أسباب تلك الحالة، فإنّه لا ينسبها إلى نفسه، أو إلى ما قد يكون أنجزه هو، كيما يكون في مثل ذلك المكان، وفي مثل تلك الحال، وإنّما يؤكّد بصورة واضحة أنهّ مدين في ذلك كلّه، إلى البحيرة التي تنتصب أمامه، إلى قصب البامبو والنّباتات التي تحيط بها، وإلى الجبال التي تتاخمها... وبعبارة أخرى، لم تكن تلك الغبطة في نظره نتاج جهده الذّاتيّ، وإنّما هي ترجمة لسطوة الطّبيعة التي كانت تتراءى من حوله، وتملك عليه حواسّه. وكذا الشّأن بالنّسبة لـ (الحكمة البالغة) التي يرجعها بو جويي إلى سورة العالم الذي يحيط به، ولا إلى جدارته هو.. الذّاتيّة.
قد يتمثّل في هذه الحالة الترقّي الذّاتيّ؟ وهل بإمكاننا الحديث بصدده عن طريق تقود إلى الحكمة؟ في الحقيقة أنّ الترقّي الذّاتي يبقى رهين إرادة الإنسان ومدى استعداده لتحقيقه، وتكون أولى علاماته هو الإحساس بالسّعادة. فهو الذي يهيّئ صاحبه فيجعله على قيد استنفار باطني.
متعة الاتّحاد بالطّبيعة التي تؤدّي إلى فقدان الوعي بالذّات، لا تعني بالضّرورة فقدان المرء لهويّته، ولا هي تمثّل تجربة مخيفة، إذ لا ينظر إلى الطّبيعة أبدا على أنّها في وضع متعارض مع الإنسان، لذلك فهي لا تغذّي في المتأمّل فيها حتّى مجرّد هاجس الاستحواذ عليها. بل إنّها على العكس من ذلك، تحفز ذاك المتأمّل إلى الإمّحاء، والانسحاب من ذاته للتوحّد معها والانصهار فيها.
فوَان زانغْ مينغْ (1470-1559)، هذا المفكّر الشّهير، الذي كان في ذات الوقت رسّاما وخطّاطا وشاعرا وصاحب حديقة لا تزال مزارا إلى حدّ اليوم، نقل إلينا تجربته في الحياة عبر لوحة تشكيليّة، تحمل عنوان (إقامة في الأعالي). وفي هذه اللّوحة يتراءى لنا شخصان تحت سرادق يطلّ لا على الأرض التي يوجد فيها ذلك السّرادق، ولكنّه ينفتح على ما يقع وراء الجدران. وقد أنجزت تلك اللّوحة بمناسبة انسحاب صديقه الرسّام ليو لين عن العمل، وهو في سنّ السّبعين من عمره.
دور الحديقة يبدو في تلك اللوحة محدّدا بوضوح: أن يظلّ المرء ثابتا بسلام، رغم ما يعتري العالم من حوله من اضطراب وهيجان. هكذا.. لا يكون في اتّحاد المتأمّل بالعالم ضياع لذاته، طالما أنّه يكون بالإمكان نقل انفعالاته بوساطة الفرشاة إلى قصيدة أو إلى رسم، لتظلّ بعد ذلك نابضة في الخيال.

بين الظّاهر والباطن
إن كانت الحديقة تجسّد في حدّ ذاتها عالما مغلقا يحجبه جدار، فهو ليس مقطوعا عن بقيّة العالم، فعلى عكس حديقة جولي عند روسّو، الموصدة والمنطوية على ذاتها، تحافظ الحديقة الصّينيّة دائما على ارتباطاتها بالعالم الخارجي. لذلك كان يتمّ تخصيص شرفة تفتح على ما يقع خارج الحديقة، بعيدا عن سياجها(...)
فالحديقة هي مكان الحياة المثلى، بما تتيحه من تنمية للخيال. ولا تكون هذه الأخيرة مطلقة العنان، وإنّما موجّهة خطوة خطوة، عبر مسار هو في ذات الوقت فيزيائيّ، حسيّ وروحانيّ، يذكّر بشكل متواتر بالحياة المرتبطة بالخلوة وبالحكمة، أو بالحياة (الفنيّة) للمثقّفين. وحتّى الاعتناء بالحديقة، فإنّه قد يقود هو الأخر إلى الحكمة. لذلك نرى جي تشانغ في «رسالة عن البستان»(1634) يؤكّد:
(لقد تمّت الإشادة بالعزلة في قصيد بان يو (347-300): الأعشاب العطرة (استعارة تلمح إلى الإنسان الخيّر) مَجْلبَةٌ للرّحمة. لا بدّ لنا من كنس الممرّ، والاعتناء بالنّباتات الغضّة للسُّحْلب، كي يُفْغم شذى عطرها الحجرات العلويّة، كما ينبغي رفع السّتائر لاستقبال الخطاطيف التي تشقّ من حين لآخر النّسيم الهائم(...)، فتستفزّ بذلك الإحساس بالتوحّد، بالصّفاء وبالكسل، وتجعل المشاعر متناغمة مع التّلال والرّبى(استعارات لحياة العزلة). فجأة، تغدو الخواطر منسلّة من عالم الغبار، فتبدو وكأنّها تتسلّل إلى باطن لوحة، متمدّدة في سديمها).
يرى جي تشانغ حينئذ أن الحياة في الحديقة والأنشطة المرتبطة بها، تقود حتما إلى الانفصال عن عالم الغبار، وإلى التّسامي عاليا في مقامات الطّهر والاستقامة، ثمّ يوازي، من حيث مفعولهما على الإنسان، بين فنّ الحديقة وفنّ الرّسم. وإذ منح المثقّفون في الصّين منذ القرون الأولى من زمننا هذا، نظريّة تنتظم فنّ الرّسم، فإنّ أوّل رسالة في فنّ الحدائق لن تكتب إلاّ في وقت متأخّر، وتحديدا في القرن السّابع عشر. وكان صاحب تلك الرّسالة هو ذلك المثقّف الشّغوف بالحدائق، جي تشانغ. وفي هذا الفنّ يبدو الإحساس الواقعي والإحساس الخيالي بجمال الحديقة، متراكبين ومتزامنين، إذ يضعان المتنزّه فيها في حالة من الاستنفار الباطني الذي يولّد لديه شعورا غامرا بالامتلاء الرّوحانيّ، أي إلى ما يشبه حال (السّعادة المطلقة) عند كونفيشيوس، أو (الواقع الحقيقيّ) في الطّاويّة والبوذيّة التّشان (الزّان باليابانيّة).
ومهما كانت ضآلة الأشياء التي تعمر الحديقة، فإنّ اكتمالها يظلّ رهين مدى قدرتها على إثارة صور وأحاسيس وانطباعات مثاليّة في ذهن المتنزّه فيها، أي مدى قدرتها على العروج بزائرها إلى مراتب رفيعة من السّكينة، تجعله يذهل عن عوارض الحياة، ليغدو موصولا بنبض الحياة الكونيّة. ويعني ذلك أن يظلّ الباطن دائما موصولا بالحياة الحسيّة الظّاهرة. ويحيلنا ذلك طبعا على أوجه التّماثل بين الصّغير والكبير، بين المتناهي في الصّغر والمتناهي في الكبر، فبعض الحصى والصّخور قد تجسّد جرفا أو جبلا، وقد تذكّر بركة ماء أو بحيرة برحابة البحر.. غير أنّ تلك القاعدة قد لا تكفي، ما لم يتمّ الاعتماد على مبدأ»استعارة المشاهد«، الذي يعتبره سادة الحدائق الصّينيّة أساسيّا في كلّ حديقة.

الحديقة خارج الحديقة
لا تنحصر استعارة المشاهد في التقاط المناظر، التي تقع بعيداً في ما وراء السّياج، كما يمكن تصوّرها في رسومات، وإن رهانغ مينغ مثلاً، إنّها تعني أيضاً كلّ ما تلتقطه الحواسّ الأخرى من صور وروائح وأصوات، وكذلك كلّ الصّور التي تتوارد في ذهن الزّائر للحديقة، إنّ اسم جبل صينيّ مشهور، أو اسم قمّة أسطوريّة منحوت على جلمود صخر بالحديقة، قد يدفع بالزّائر إلى تصوّر تلك القمّة.(..)، وتنعت تلك الصّور الذّهنيّة بـ«الحديقة خارج الحديقة»، وتبعاً لذلك، فإن السّياج مهما كان صغيراً، يمكن عن طريق (الاستعارة) تمديده في المكان والزّمان إلى ما لا نهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©