الخميس 23 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الممجدون والمتهجمون على ماضي الحضارة العربية بعيدون عن النظر الموضوعي

الممجدون والمتهجمون على ماضي الحضارة العربية بعيدون عن النظر الموضوعي
28 فبراير 2019 03:13

د- ألفة يوسف

من نافل القول إن الأيام دول، وإن التغيير جوهر الحياة. وعبر تاريخ البشر، مرت بحكم العالم حضارات متعددة ومتنوعة شأن الحضارة الأكادية والفارسية والرومانية والبريطانية وسواها. وعادة ما تتميز الحضارة المؤثرة لا فحسب بقوة عسكرية وحربية، وإنما أساسا بازدهار فكري وثقافي.

من أبرز الحضارات التي أثرت قي التاريخ البشري، نذكر الحضارة العربية الإسلامية. تشهد على ذلك عشرات الكتب والمقالات التي كُتبت في دور الثقافة العربية في النهضة الأوروبية، وتشهد على ذلك أسماء عشرات العلماء والمفكرين العرب ساهموا في بناء صرح الفلسفة والعلوم الكوني شأن ابن الهيثم وابن رشد والرازي وغيرهم.
وإذا نظرنا في علاقة المخيال الجمعي العربي بالثقافة العربية لوجدنا أنه يتناولها من منظورين متقابلين ظاهرا.

منظور التمجيد والتحسر
إذا كانت نكبة 1967 في القرن العشرين نقطة تحول في رؤية العرب لأنفسهم في العصر الحديث، فإن سقوط الأندلس هي لحظة فارقة في تمثل العربي لتاريخه. سقوط الأندلس يمثل لدى العربي جرحا غائرا إلى اليوم، لا بالمعنى المباشر الحسي، فيندر أن تجد حوارات عميقة متواترة حول هذه اللحظة التاريخية، ولكن بالمعنى الرمزي الذي يجعل كل فقدانٍ اليوم يحيل في الذاكرة على فقدان الأمس. وكثيرا ما تتداول مواقع التواصل الاجتماعي، وهي المعبرة عن التصورات الشائعة، ما يُنسب إلى أم أبي عبدالله من قولها لابنها: «ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال». هذه العبارة تُعتمد كلما شعر العربي بخطر يتهدده من شأنه أن ينتج خسارة وفقدا، وكأن صوت أم عبدالله يتردد صداه في صدور جل العرب.
هذا السلوك المعروف في التحليل النفسي بـ«استذكار الجرح» متصل بعدم قبول كثير من العرب ما طرأ على حضارتهم المزدهرة والقوية في التاريخ من ضعف وسقوط ووهن. لذلك تجد بعضا منهم موغلا في تمجيد الماضي وتقديمه بصورة مشرقة زاهية ضاربا الصفح عن كل الهنات والعيوب والسقطات التي لا يخلو منها تاريخ أي حضارة من الحضارات البشرية.
إن تمجيد الماضي يقوم عادة على مقاربة قياسية مفادها: لقد كانت حضارتنا سبّاقة في مجال العلوم والاقتصاد والفكر، أما اليوم، فنحن عموما من الأمم النامية، لنا تبعية اقتصادية وتكنولوجية، وسبب هذا التأخر أننا ابتعدنا عن سمات الأجداد، سبب هذا التأخر أننا لم نتشبه بأسلافنا. وتكون النتيجة المنطقية وفق هؤلاء هي: إذا تشبهنا بأسلافنا، فستعود إلينا القوة وستسترجع حضارتنا وثقافتنا الازدهار.
بعبارة أبسط: وضعنا في الماضي مجيد، وضعنا في الحاضر ضعيف، إذن يجب أن نعيد إنتاج الماضي لنسترجع مجدنا. ضمن هذا البناء الذهني تندرج كل الإيديولوجيات السلفية الداعية إلى التشبه بالقدامى، فمن داع إلى إعادة حكم الخلافة، ومن متبن نمطا مخصوصا من اللباس تشبها بالقدامى إلى مبدٍ عداوة للغير الغربي داعيا إلى قتاله أسوة، في تصورهم، بالسلف الصالح.

منظور التهجم والتحقير
في مقابل مقاربة الماضي التمجيدية نجد اليوم في المخيال العربي مقاربة انتقادية تحقيرية للحضارة العربية الإسلامية. تقوم هذه المقاربة على اعتبار مشاكل الحاضر ناتجة عن الانتماء إلى هذه الحضارة التي لا تصلح، في رأيهم، لبناء المستقبل. يندرج في هذا التيار أشخاص لهم منطلقان. المنطلق الأول عرقي يخلط بين الفتوحات والاستعمار، ويعتبر أن العرب المسلمين استعمروا بعض المناطق شأن بلدان شمال أفريقيا، هذا الصنف يتملص من الهوية العربية، ويؤمن بصفوية عرقية تجعله يطالب بما يعتبره «هوية أمازيغية أصلية». وقد يساند هؤلاء في تحركاتهم أحيانا عدد كبير من الجمعيات الأجنبية المشبوهة تتبرأ من الحضارة العربية وتعتبرها عنوان تخلف وجمود. أما أصحاب المنطلق الثاني، فيرون أن الحضارة العربية قامت في تاريخها على صراعات دموية على السلطة السياسية بلغت حد موت ثلاثة من الخلفاء الراشدين مقتولين، إضافة إلى عشرات الرؤوس المقطوعة والدماء المراقة والحروب بين الفرق والمذاهب وطالبي الحكم. ويعتقد هؤلاء أن الثقافة العربية الإسلامية، بهذا التاريخ الدموي، عاجزة عن التلاؤم مع متطلبات الواقع الحديث المتأسس على مبادئ الديمقراطية والحريات الفردية، لذلك يجب الانبتات عن هذه الحضارة وقطع كل الجذور التي تربطنا بها.

المنظوران متهافتان
إن الفريق الأول يحيا في الماضي، ويريد أن يسقط على الحاضر نظما وعلامات وأساليب عيش تجسمت منذ قرون. هؤلاء ينسون أن الواقع سياقي، فلا إمكان لاستنساخ التاريخ كما هو اليوم، بكل بساطة لأن المقام تغير، ومن ثم فعلامات الماضي وإن حاولْتَ استنساخها كما هي، ستكون بالضرورة مشوهة لأنها ولدت في سياق آخر مختلف. إن هذه العقدة هي عقدة رفض التغير بما هو خصيصة جوهرية للكون. هذه العقدة تقوم على تصلّب فكري ونفسي يتجاهل أن كل شيء يجري، وأن استنساخ زمن مضى ليس إلا استيهاما (فانتازما) خياليا. ومن منظور نفسي، يمكن اعتبار هذا الفريق شبيها بالطفل الذي لم يستطع أن يكبر وينضج، وظل متمسكا بالعلاقة الأولى مع الأم. ومثلما أن بعض الأطفال يرفضون الفطام من حليب الأم، فإن بعض الراشدين يرفضون الفطام من الحضارة المجيدة التليدة.
أما الفريق الثاني فهو ظاهريا رافض للماضي، ونحن نرى أن هذا الرفض ظاهري فقط. ذلك أن هذا الفريق ليس واعيا بأن الماضي الذي يرفضه هو جزء أساسي من مكونات هويته، فقد علمنا التحليل النفسي أنه كلما رفض الإنسان شيئا ما بحدة وبعنف، إلا دل ذلك الإيغالُ في الرفض على قيمة الشيء المرفوض بالنسبة إلى الرافض. مثلا، أغلب من يحتجون بشكل عنيف قطعي على الدكتاتوريات تجدهم يحملون بين ظهرانيهم شخصيات مستبدة. فكأن عدم رضاهم عن سمة الاستبداد النفسي فيهم يحملهم إلى الاحتجاج على كل مستبد خارجي. وفي مقام حديثنا، فإن من يكيلون للحضارة العربية الإسلامية كل النعوت السلبية والصفات القاتمة، منزعجون من انتمائهم إلى هذه الحضارة، ولكنهم مع ذلك يحملونها وشما لا يمكن إلغاؤه بما ينشئ نوعا من الفصام بين انتماء حاصل ضرورة وانسلاخ منشود ومستحيل في الآن نفسه.
ومن اللطيف أن نلاحظ أن الفريقين على اختلافهما الظاهر يشتركان في تهافت رؤيتهما للماضي. ذلك أن كلا من الممجدين لماضي الحضارة العربية والمتهجمين عليه بعيدان كل البعد عن النظر الموضوعي المتبصر. فالمقاربة الموضوعية تقتضي تحديد النقاط المنيرة والنقاط المظلمة التي لا تخلو منهما أي ثقافة في العالم. إن المقاربة الموضوعية تجسّم معنى النقد الأصلي، وهو النظر المتبصر الرصين. وفي مقابل ذلك هذه المقاربة الموضوعية، تنتصب المقاربة الذاتية التي هي أقرب إلى ردود الأفعال المتسرعة تكشف عن قلق نفسي واضطراب هووي.
ومن أبرز عيوب المقاربة الذاتية الانفعالية أنها عاجزة عن النظر إلى المستقبل يستوي في ذلك ممجدو الماضي أو الرافضون له، فأما الماضويون فمهووسون بصورة وهمية في التاريخ، وكأنهم يعبدونها وثنا هو ككل الأوثان جامد عاجز، وأما المتهجمون على الماضي، فهم أيضا مهووسون به من حيث يتوهمون تجاوزه ونفيه.

الماضي سبيل للمستقبل
إن المخيال العربي يحمل الماضي عبئا سواء أكان عبء الماضي المشرق الذي لا يمكن محاكاته أم عبء الماضي القاتم الذي لا يمكن الانسلاخ عنه. وهذا المخيال مفتقر إلى قراءة تفكيكية للماضي تضعه في سياقه التاريخي وتتناول مختلف وجوهه دون إسقاط لا زمني (anachronique) ودون فانتازمات خيالية بعيدة عن الواقع. إن الماضي غدا بشكل ما عقدة لدى العرب، ومن المعلوم وفق نظريات العلاج النفسي أن تجاوز العقد لا يكون بتجاهلها والصمت عنها، وإنما تجاوز العقد يكون بالوعي بها وبتسميتها.
إن التفات العرب تجاه المستقبل رهين هذه المقاربة التفكيكية للماضي وللتراث الثقافي. هذا ما قام به فلاسفة الغرب ومفكروه شأن هيدغر (Heidegger) ودريدا (Derrida)، وقد حاول بعض مفكري العرب أن يسلكوا طريق التفكيك العسير في مساءلة التراث وفهمه دون تقديس ولا تجريح، ومن هؤلاء المفكرين نذكر محمد عابد الجابري في قراءته للعقل العربي أو محمد أركون في قراءته للعقل الإسلامي أو جورج طرابيشي في نقده لمشروع الجابري، ولكن هذه المحاولات كانت مغامرات فكرية فردية ولم تندرج في نسق جماعي تأسيسي، لذلك رحلت برحيل أصحابها. إن ما نفتقر إليه اليوم هو تبني مؤسسات ثقافية مسألة النظر في الماضي نظرة تفكيكية تؤدي إلى مصالحة شاملة معه. فالمصالحة مع الموروث الرمزي هي وحدها الكفيلة بأن تفتح بابا نحو ولوج العرب المستقبل من حيث هم عناصر فاعلة مؤثرة ولا مجرد أسواق استهلاكية أو مستعمرات ثقافية تتراوح بين البكاء على الأطلال والتهجم عليها.

يعتقد بعض العرب أن وضعنا في الماضي كان مجيداً وهو في الحاضر ضعيف لذا يجب أن نعيد إنتاج الماضي لنسترجع مجدنا

توجد مقاربة انتقادية تحقيرية للحضارة العربية الإسلامية تقوم على اعتبار مشاكل الحاضر ناتجة عن الانتماء إلى هذه الحضارة التي لا تصلح لبناء المستقبل

لا إمكان لاستنساخ التاريخ كما هو اليوم لأن المقام تغير فعلامات الماضي وإن حاولْتَ استنساخها كما هي ستكون بالضرورة مشوهة

علمنا التحليل النفسي أنه كلما رفض الإنسان شيئا ما بحدة وبعنف دل ذلك الإيغالُ في الرفض على قيمة الشيء المرفوض بالنسبة إلى الرافض

الماضويون مهووسون بصورة وهمية في التاريخ وكأنهم يعبدونها وثناً جامداً عاجزاً والمتهجمون على الماضي مهووسون به من حيث يتوهمون تجاوزه

التفات العرب تجاه المستقبل رهين المقاربة التفكيكية للماضي وللتراث الثقافي وهذا ما قام به فلاسفة الغرب ومفكروه

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©