الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ألف حياة وحياة للرفاهية

ألف حياة وحياة للرفاهية
9 يناير 2020 01:41

ترجمة: عبدالرحيم نورالدين

رؤية مختلفة تماماً عن الرفاهية تلك التي يقدمها متحف اللوفر أبوظبي بالشراكة مع متحف باريس لفنون الزخرفة. في هذا الموسم الثاني من المعارض المخصص لـ «المجتمعات المتغيرة»، تم جمع 350 قطعة من متحف فنون الزخرفة، و«كي برانلي» (Quai Branly)، ومتحف اللوفر، ومتحف الشيخ زايد، فضلاً عن مخزونات ميراث خاصة بالديار الكبرى لحكي «عشرة آلاف عام من الرفاهية» ومحاولة تتبع الخطوط العريضة غير الدقيقة لهذا المفهوم الألفي. من العصر الحجري الحديث وحتى يومنا هذا، يستكشف المعرض الجديد أصول الرفاهية وتطورها عبر المراحل التاريخية والثقافات، دون محاولة تقديم تعريف وحيد لها. انحياز يشرحه أمين المعرض، أوليفيي غابي (Olivier Gabet)، مدير متحف فنون الزخرفة: الرفاهية مفهوم صعب التعريف، ولهذا السبب لم نحاول أن نكون شاملين بل قدمنا فقط وجهة نظر. ويطرح المعرض بمزجه بين الأشياء المفيدة أو المقدسة، الثمينة أو العادية، المزخرفة أو الحد الأدنى، السؤال - أكثر مما يجيب عنه: «ما هي الرفاهية؟».
عندما حاولنا ترجمة عنوان المعرض إلى اللغة العربية، أدركنا أنه لا يوجد ما يعادل كلمة «Luxe». تقتضي ترجمة«le luxe» تعيين التباهي والوفرة والثراء والإفراط في الترف في الآن ذاته.. لكن الكلمة بمعناها الحقيقي، ليس لها ترجمة، كما توضح ثريا نجيم، المديرة العلمية المسؤولة عن الحفظ والمجموعات في متحف اللوفر أبوظبي. بعيدا عن أن يكون له تاريخ خطي، اتخذت الرفاهية تعبيرات متعددة على مر العصور. لقد تعلق الأمر بالطقوسي والقدسي، وبالندرة والثمانة، وبالدراية والانتقال. كما تعلق الأمر بالتميز الاجتماعي وإبراز السلطة. وأخيرا، تعلق الأمر بالبساطة والتكلف.
يعكس المعرض، المجسد في الآن ذاته لموضوعه وللتسلسل الزمني، هذه الذاتية عن طريق انتقائية الأشياء المعروضة. وبالفعل، ما هي العلاقة بين ثراء غطاء الرأس الإمبراطوري الصيني وبين بساطة وعاء ياباني؟ بين قلادة من زجاج لشركة لاليك (Lalique) وبين ثمان قطع من المجوهرات الراقية؟ ما هو الرابط بين زوج من الأحذية الرياضية وبين فستان حياكة راقية؟ بالنسبة إلى أوليفيي غابي «الرابط هو النظرة التي يرى بها كل مجتمع الشيء. شيء باذخ ما في أفريقيا، لن يكون كذلك في فرنسا. هناك، سيتحدث عن الطقوس وعن السلطة. في فرنسا، سيقول شيئًا آخر. الرفاهية، فكرة تشترك فيها جميع الحضارات، إنها خيط أحمر موجود في جميع أنحاء العالم والقرون. تهدف فكرة المعرض تحديداً إلى توضيح لحظات تطور هذه الفكرة».

سلسلة انعطافات كبرى
هذه التطورات عديدة، ذلك أن تاريخ الرفاهية والترف يتكون من الارتفاعات والانخفاضات، والتعارضات والتناقضات، والتقدم والتراجع.. تبعا لهوى المعرض، هناك تعريفات عديدة للرفاهية مقترحة على الزائر. والبداية بهذا التعريف: الرفاهية هي الأشياء التي يحتفظ بها المرء، والتي تشكل جزءًا مما ينقل إلى الخلَف. لتوضيح هذه النقطة، يسلط المعرض الضوء على كنز بوسكوريالي Boscoreale، وهو مجموعة أدوات الأكل، من الذهب والفضة، تعود إلى العصور الرومانية القديمة، كانت محفوظة بعناية في أسفل صهريج من قبل مالكي فيلا على سفوح فيزوف (Vésuve). تتناقض قيمة المجموعة مع تواضع الفيلا حيث تم العثور عليها، مما يدل على أن المجموعة كانت تعتبر ثمينة. بعد ذلك بكثير، في العصور الوسطى، ستعرف الرفاهية بالبراعة في المعرفة وتطوير التقنيات الجديدة. في وقت لاحق، مع الطرق البحرية الجديدة ووصول توابل غير معروفة، سيتم التعبير عن الرفاهية في فنون السفرة. جنبا إلى جنب مع نجود تمثل مشاهد الوليمة، بدأ الناس في العثور على أكواب، وكؤوس، وأطباق باستخدام معارف عملية معقدة. في تلك الفترة، أصبحت المملحات وأحقاق الفلفل أشياء باذخة بينما بدأت أدوات المائدة في الظهور ببطء. كما أصبحت الملعقة، التي غالباً ما تكون متقنة جدًا، عنصرًا شخصيًا ممثلا للرفاهية، يجلبه الضيف معه إذا دعي لوجبة. في القرن السادس عشر اكتسحت الشوكة طاولة الأمراء.
بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، مثَّل اكتشاف مناطق جديدة نقطة تحول رئيسية. وستسمح إقامة العلاقات التجارية للنخبة بالوصول إلى أشياء نادرة قادمة من مناطق غريبة. منذ ذلك الحين، ستطور أوروبا افتتاناً بكل ما هو آسيوي، وخاصة بكل الأشياء المجلوبة من اليابان والصين. نحن نعرف مكانة اليابان في تاريخ الحداثة، والمعرض يبرهن على أن ذلك ليس وليد اليوم. لقد أثارت بساطة الأشياء المعتبرة كقمة للرفاهية بالنسبة لليابانيين، ثورة حقيقية بين نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، لبعد هذا المفهوم عن الرؤية الأوروبية. كان مفهوم«وابي- سابي»(wabi-sabi) يعظم الرصانة ويمنح قيمة لزنجار الزمن. وكان«كنتسوجي»(kintsugi) - الترميم بورنيش الذهب- يسلط الضوء على الحادث. الشيء الباذخ هو ذاك الذي يتم إصلاحه ليتم نقله إلى الأجيال اللاحقة.

العصر الذهبي للبزازين
هذا الانبهار للحضارات بعضها بالبعض الآخر، والحاجة إلى أفكار جديدة ومصادر إلهام سيؤسس، فضلا عن ذلك، فن عيش على الطريقة الفرنسية كنموذج للبلاطات الأوروبية. في القرن الثامن عشر، ستصبح باريس عاصمة الرفاهية. هذه المرتبة سهلها إلى حد كبير دور التجار البزازين، أول المديرين الفنيين للبشرية. لدى هؤلاء«التجار لكل شيء والصانعون للا شيء»، وفقًا لعبارة ديدرو (Diderot)، القدرة على منح قيمة للمواد والتقنيات الأجنبية من خلال تكييفها مع الموضة الأوروبية. وقد تمت الاستعانة بنجاري الأثاث وصائغي الذهب والخزفيين للعمل على تسامي وتحويل هذه الأشياء المستوردة من مكان آخر، وتلبية زبائن يتوقون إلى المستجدات. تحت أيديهم، تصبح القطع الخزفية الصينية هياكل أصلية من البرونز المذهب. يخلق تجار القماش الاتجاهات ويساهمون بشكل كبير في إنتاج العديد من الأشياء المستعملة في الديكور. بدأ البذخ ينتشر ويتعمم ببطء. لم يعد ينتمي إلى مجال المقدس، ولم يعد مخصصًا لنخبة صغيرة.
كلما تقدمنا في المعرض، زاد عدد الأشياء. «في العصور القديمة، كان هناك القليل، لأن الرفاهية كانت مخصصة للنخبة. وبمرور الوقت، أصبحت أكثر حضوراً وتقاسماً»، يقول أوليفيي غابي. ستشكل الثورة الصناعية مرحلة أخرى بفضل ظهور طبقة اجتماعية جديدة والإنتاج الضخم للأشياء الثمينة. كف العنصر الباذخ عن كونه علامة مميزة ليصبح علامة على الانتماء. كما أتاح التقدم التقني إنشاء ديكور غير مسبوق تماماً. وستعمل المعارض العالمية بعد ذلك كمسرح لإبداعات الحرف اليدوية المذهلة للغاية، عروض حقيقية للمعرفة والبراعة الفنية. إذا تلاشت فكرة الندرة، فكيف نحدد ما هو متعلق بالرفاهية؟. «لم يكن من السهل دائماً تعيين الحدود. بالنسبة للفترة الأركيولوجية، لدينا عدد قليل من الأشياء، كان ذلك واضحاً جداً. الشيء نفسه بالنسبة لحضارات مثل الصين أو اليابان. خذ على سبيل المثال غطاء الرأس الإمبراطوري الصيني: المواد نادرة، والوجهة نادرة، إنه شيء يخص صاحب حظوة... خلال عصر النهضة وكذلك خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، عندما صارت هناك فجأة وفرة من العناصر، لم يكن تعيين ما هو باذخ وما هو غير ذلك بديهيا. ومع ذلك تبقى المادة معياراً جيداً». لكن الفكرة تصطدم مرة أخرى بتعارضاتها. إذا كانت المادة معيارا، فما هو الجزء الباذخ في قلادة«لاليك» مكونة أساساً من الزجاج والطلاء الخزفي، أو في مجموعة من الأثاث المغشى بالقش والموقع من قبل المصمم جان ميشيل فرانك (Jean-Michel Frank) لشقة فرنسوا مورياك (Mauriac François)؟

«البذخ الغريب للا شيء»
«ديكور جان ميشيل فرانك في رأيي، هو أكثر الأشياء رفاهية في المعرض. إنه يمثل نقطة تحول حاسمة في مفهوم البذخ، بمعنى أنه من خلال مادة بسيطة جداً، أي القش، وبأقصى قدر من البساطة في الرسم، يمكن للمرء أن يخلق شيئاً هو التطور المطلق. يعود لجان ميشيل فرانك هذا التعبير الاستثنائي: «البذخ الغريب للا شيء». نحن في الثلاثينات من القرن الماضي، لا يمكننا تعريف اللحظة التي ينقلب البذخ أمام الفيض والإشباع، بعبارة أفضل من المذكورة سابقاً. كان ذلك دليلاً على أن هناك طريقاً أخرى ممكنة. هذه المجموعة تمسني بشكل كبير. نتحدث كثيرًا عن عمل اليد، بيد أن الاشتغال على البساطة هو أيضاً أمر معقد تماماً، يحلل أوليفيي غابي. جمالية الفراغ التي ينادي بها مصمم الديكور تأتي لتقطع مع ذائقة الغنى والزخرفة التي ميزت القرن التاسع عشر. بدء من هذه الفترة، ستستمر الرفاهية في مناوبة البحث عن البساطة والتطوير، كما ستشهد على ذلك الحركات المتتالية المختلفة بين الفن الجديد و«آر ديكو» والنزعة الحداثية. للتصدي للنصف الثاني من القرن العشرين، يدخل الجزء الأخير من المعرض أخيرًا، إلى مجال الموضة والأزياء الراقية. لباس كامل للمساء من توقيع كريستيان ديور (ِChristian Dior)، فستان طويل من تصميم هلموت لانغ (Helmut Lang)، فستان شانيل أسود صغير.
وسط الفساتين والمعاطف والمشالح الموقعة من مصممي أزياء كبار، يُعرض زوج من أحذية بيير هاردي (Pierre Hardy). وهو الدليل، إذا كان لا يزال ذلك ضرورياً، على أن فكرة البذخ، من كنز بوسكوريالي إلى زوج الأحذية الرياضية، قد تغيرت إلى حد كبير على مر القرون. «10000 سنة من الرفاهية» تنتهي برؤية رمزية. في وسط غرفة فارغة تقريباً، توجد ساعة رملية مصنوعة من الزجاج وموقعة من مارك نيوسون (Marc Newson)، موضوعة بمفردها أمام نافذة مطلة على البحر. التجربة، الزمان، المكان.. هذا هي الرفاهية الجديدة في بداية هذا القرن 21. نحن نعيش مرحلة إعادة تعريف وتحول. مسألة الزمن أمر أساسي اليوم. عندما يرى المرء الرقم الأول العالمي في البذخ «LVMH» يستثمر في فنادق بيلمون (Belmond)، نوع من مصنع الأحلام، فذلك يسائلنا. هذا دليل على أن الرفاهية لم تعد مقيداً ضمن حيازة الخيرات المادية ولكن في تقاسم القيم والخبرات» يحلل أوليفيي غابي قبل أن يختم بِ: «الرفاهية علامة على شكل التقدم، والاكتمال، سواء كان ذلك اقتصاديا أو صناعيا أو إبداعياً.. إنها تقول أشياء عميقة عن مجتمعنا. هي في كل مكان، وقد غزت كل فضائنا العام والذهني. يبدو أنها جاءت لتهدئة مخاوفنا ورغباتنا».

المصدر:
مجلة «لي إيكو ويكيند» Les Echos Week-End

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©