الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مجتمع الرحمة

مجتمع الرحمة
2 ابريل 2020 00:09

إذا كان غاستون باشلار يرى أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم، ما يجعل من كل نظرية جديدة عبارة عن تصويب لأخطاء النظريات السابقة، ففي المقابل ليس تاريخ الفلسفة في بعض أحواله سوى تاريخ تصورات ناقصة حول الفلاسفة، ما يجعل من كل فلسفة جديدة عبارة عن محاولة لقراءة أكثر اكتمالاً لنصوص الفلاسفة السابقين، وهو ما يفسر أيضاً كيف أن كل فلسفة تحمل بين ثناياها نوعاً من التاريخ المضاد للفلسفة.

في هذا الإطار هناك خطأ في التأويل يستدعي إعادة التأويل مجدداً، وسيكون هذا الإجراء بمثابة تأكيد إضافي لحاجتنا إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة بصيغة أكثر ملاءمة لمتطلبات الزمن الراهن.
يتعلق الأمر بالموقف من «فيلسوف الأخلاق»، كانط الذي يصنفه البعض ضمن إطار القسوة لمجرد أنه يقصي المشاعر من منظومة الأخلاق، ويعتقد أن العقل الأخلاقي يشتغل بنحو مجرد عن المشاعر والأحاسيس والغرائز. وفعلاً، انطلاقاً من زاوية نظر معينة يبدو الأمر كأنه كذلك.
مثلاً، رغم ميلنا الطبيعي إلى مساعدة الآخرين، إلا أن مساعدة الآخرين لا تمثل حسب كانط أي قيمة أخلاقية ما لم تكن صادرة عن جملة من الأسئلة التي يجب أن يطرحها العقل المجرد عن الأهواء قبل الإقدام على فعل المساعدة، أسئلة من قبيل: ما الذي يتوجب عليّ فعله في هذه الحالة؟ ما هو الأمر الصادر عن عقلي الأخلاقي الآن؟ هل أنا متأكد بأني سأتصرف بدافع الواجب الخالص أم ثمة دوافع أخرى؟ ما هو التصرف الذي إذا قمت به فإنه يصلح لكي يصير تشريعاً يمارسه الجميع في موقف مماثل؟ إلخ.
لكن، ألسنا نساعد بعضنا بعضاً بدافع المشاعر؟
فهل أخطأ كانط في تقدير دور المشاعر في بناء نسيج التضامن الإنساني؟
أظن أننا نحن الذين نخطئ التقدير حين نعتبر الكانطية نوعاً من العقلانية الأداتية، والتي تشبه الذكاء الاصطناعي الذي قد يصير شريراً كما تتصور بعض أفلام الخيال العلمي المرعبة.
إجرائياً لا يمكننا أن نختبر عقلاً عملياً إلا على أرضية عملية، لذلك أقترح مساءلة المنظومة الأخلاقية لكانط انطلاقاً من حادثة واقعية، سأرويها كما جرت، وذلك قبل الخوض في محاولة استخلاص الدلالات والعبر:
في عام 2018 تمكن مهاجر سري من مالي، يدعى مامادو غاساما، من إنقاذ طفل يبلغ الرابعة من العمر، بعد أن رآه متدلياً من شرفة البيت بالطابق الرابع لعمارة وسط العاصمة الفرنسية باريس، وكان جار الأسرة ممسكاً به من الشرفة الأخرى، غير أنه لا يستطيع أن يسحبه بسبب حاجز جداري. في تلك الأثناء قام مامادو بعمل بطولي، بحيث تسلق واجهة العمارة إلى غاية الطابق الرابع، ونجح في الإمساك بالطفل، وبالتالي تمكن من إنقاذه من موت محقق.

لدينا الآن سؤال كانطي بامتياز:
طالما أن مامادو لم يكن هو «الرجل العنكبوت» الذي بوسعه أن يتسلق الحيطان بلا مخاطر تُذكر، فمجمل القول إنه جازف بحياته إلى حد بعيد، وهذا المعطى بالغ الأهمية في اعتبارات التحليل، لأن السؤال المطروح هنا هو لماذا يجازف شخص بحياته من أجل إنقاذ طفل لا يعرفه ولا يتقاسم معه أي شكل من أشكال الهوية أو الانتماء؟ نعرف جوابه حين سأله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدى استقباله، حول الدوافع التي دفعته إلى المخاطرة بحياته على ذلك النحو، بحيث لم يخبره بأنه طرح السؤال حول ما الذي يتوجب عليه فعله؟ بل عكس ذلك أقرّ بأنه لم يفكر أصلاً، وكل ما في الأمر أنه وجد نفسه مندفعاً نحو التصرف على ذلك النحو. معنى ذلك أن الدافع غريزي.
فعلاً، نشعر بوجود دافع غريزي قد يدفعنا إلى إنقاذ شخص في حالة خطر، لا سيما حين يكون ذلك الشخص طفلاً صغيراً، يتعلق الأمر بدافع حماية النوع البشري، والذي يحركنا من تلقاء نفسه. بهذا المعنى يكون أحد أنبل الواجبات الأخلاقية نابعاً من الغريزة.
تلك الغريزة هي التي تجعل معظم الأطباء يعالجون الأطفال بسعادة أكبر من التي يشعرون بها أثناء معالجة كبار السن، طالما في تلك الحالة يكون الواجب المهني متطابقاً مع الدافع الغريزي إلى حماية النوع البشري.
الدافع الغريزي حاسم إذاً، ومرة أخرى نعيد السؤال: هل أخفق كانط في الرهان؟
بالعودة إلى الحكاية نلاحظ أن مامادو غاساما تصرف بنحو غريزي تماماً. ولو أنه طرح السؤال ما الذي يتوجب فعله؟ لربما لن يخاطر بحياته بذلك النحو، بل قد يكتفي بمناداة رجال الإنقاذ عبر الهاتف، أو الذهاب إلى أقرب مركز للشرطة، أو نحو ذلك مما قد يمليه العقل المتحرر من الانفعالات. هنا يبدو الموقف الأخلاقي لكانط كما لو أنه لا يخلو من قسوة. لكن من حسن الحظ أن الأمور ليست دائماً بالنحو الذي تظهر عليه.
سنكون إجرائيين أكثر، ونطرح السؤال: لو كان إيمانويل كانط مكان مامادو غاساما فكيف سيتصرف؟
إجمالاً قد يبدو الموقف مرتبكاً للوهلة الأولى، غير أن استحضار التفاصيل ضروري وملهم أيضاً:
هناك طفل صغير متدلٍ من الطابق الرابع للعمارة، يمسك به جاره من الشقة المجاورة بصعوبة، ولا يملك من القوة ما يكفي لكي يرفعه عنده، يوشك أن يرخيه لكي يسقط في مشهد مريع، في تلك الأثناء يمر كانط بالمصادفة ويرى المشهد، وهو بحساب العقل يعرف أن المراهنة على انتظار مجيء رجال المطافئ بعد التمكن من إخبارهم سيعني التفرج على الكارثة، أو عدم الاكتراث على أقل تقدير.

كيف سيتصرف؟
هناك جزئية بالغة الأهمية، لكي تكون المقارنة مكتملة كما ينبغي يجب أن نعتبر كانط في سنوات العشرين من عمره، مثل مامادو غاساما، ولديه ما يكفي من قوة ولياقة ورشاقة لكي يتسلق واجهة العمارة إلى غاية الطابق الرابع، أو على الأقل لكي لا تكون المحاولة مجرد تهور يضيف مأساة جديدة إلى المشهد. فإنه إن كان منسجماً مع نفسه سيفعل ما فعله مامادو غاساما بلا تردد.
نعرف أن الاختبار افتراضي، وفي واقع الحال لا نعرف إن كان كانط قد تعرض لموقف مماثل أم لا، لكن بوسعنا أن نعيد بناء الاستدلال انطلاقاً من المساءلة الكانطية لتصرف مامادو.
سؤال: هل تصرف مامادو بحرية أم بأمر نابع عن مصدر خارج الذات؟
الإجابة: لقد كان مصدر الأمر نابعاً من داخل الذات.

سؤال: هل كان واعياً بما يفعله، أم فاقداً لوعيه؟
الإجابة: لو كان غير واعٍ بما يفعله لما نجح في تسلق أربعة طوابق في عمارة عمودية، بتلك الدقة والمهارة والتركيز.
سؤال: هل كان يشعر بالخوف والحزن أثناء عملية التسلق؟
الإجابة: لو كان خائفاً أو حزيناً لما امتلك القوة النفسية الكافية لبلوغ هدف يتطلب كثيراً من القوة والإرادة.
سؤال: هل امتثل لقانون يلزمه بالمجازفة لأجل إنقاذ الطفل وقد يجازيه أو يعاقبه في المقابل، أم تصرف وفق ضميره الخاص؟
الإجابة: تصرف وفق ضميره الخاص.
سؤال: هل تصرف لأجل غاية أخرى غير إنقاذ الطفل؟
الإجابة: كان فعله الأخلاقي غاية في ذاته.
سؤال: هل يصلح تصرفه لكي يصير قاعدة عامة للقادرين على التصرف بنفس النحو؟
الإجابة: تصرفه صالح للتعميم.
بهذا النحو تتوفر في تصرفات مامادو شروط الفعل الأخلاقي بالمعنى الكانطي: النية الصادقة، استقلالية الإرادة، وحسابات العقل. يبقى التعديل الوحيد المطلوب لإنهاء المشكلة هو إعادة تعريف العقل بنحو أكثر شمولية وبحيث يتضمن المشاعر العليا للإنسان وغرائز السمو، من قبيل الرحمة والمحبة والتضامن.
واضح من خلال رؤية المشهد أن مامادو أثناء تسلقه لواجهة العمارة لم يكن فاقداً لإرادته، بل لم يكن بوسعه أن ينجح في عملية التسلق بتلك الدقة والمهارة عبر شرفات الواجهة إلى غاية الطابق الرابع لو لم يكن مدركاً لقدراته الفعلية كما ينبغي، قادراً على توظيفها بالنحو المناسب، ومحافظاً بذلك على إرادته كما يجب. لم يتحرك بدافع الشفقة التي تجعل الإنسان في حالة ضعف ووهن، بل تصرف بدافع الرحمة التي تحفظ للإنسان حيويته وعنفوانه.

«الإرادة الطيبة»
على أن هناك مفهوماً كانطياً قليلاً ما ننتبه إليه، أو أننا قد نمرّ عليه مرور الكرام، لكن لو انتبهنا إليه كما ينبغي لرأيناه مفهوماً محورياً ومؤسساً، يتعلق الأمر بمفهوم «الإرادة الطيبة»، ويقصد بها -بتعديل طفيف في الترجمة- «النية الصادقة».
تكون النية صادقة حسب كانط حين لا يكون للفعل من قصد آخر غير الفعل ذاته. أساعدك لأني أرى أن مساعدتك فعل جيد في حد ذاته، ولا يحتاج الأمر إلى أي غاية أخرى تبرره، مادية كانت أم معنوية.
لكن ما الذي يبرهن للمرء على أن نيته صادقة بالفعل؟
إن الأفعال الوحيدة التي لا تخضع لأي غاية أخرى غير ذاتها هي أفعال الرحمة. عدا أفعال الرحمة فإن سائر الأفعال الأخرى تظل خاضعة لغايات أخرى تتعلق بالمقابل الذي هو الأجر، أو الجزاء، أو الثواب، أو الشهرة، أو نحو ذلك.
المشاعر التي طردها كانط موجودة في أساس البناء الأخلاقي، ذلك أن الذي يبرهن على وجود نية صادقة ليس شيئاً آخر غير الشعور الشخصي الصادق بصدق النية، وهو ما يحيلنا إلى مسألة صفاء القلب، ولعل الأمر هنا يتعلق بمعطى يمكن لكل شخص أن يختبره انطلاقاً من حدسه الذاتي الخالص.
على أن الحالة الوحيدة التي يمتلك فيها المرء يقيناً على صدق نيته هي مشاعر الرحمة:
عندما أساعدك، عندما أتضامن معك، عندما أمنحك شيئا من أشيائي، عندما أجازف لكي أنقذك، عندما أصر على أن أنصحك، عندما أمد لك يدي بسخاء، عندما أواسيك كما ينبغي، ففي كل هذه الأفعال لا تكون النية في حالة صفاء كامل، ولا يكون الفعل الأخلاقي فعلاً في ذاته ولذاته، إلا حين يكون الدافع الأساسي هو الرحمة، ولا شيء سوى الرحمة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©