الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سبل النجاة من «كورونا»

سبل النجاة من «كورونا»
2 ابريل 2020 00:09

شغل العالم جميعاً، خلت المدن من سائحيها، والشوارع أصبحت خاوية إلا من عابر يبحث عن مواد غذائية أو معقمات، كي يعود للمنزل بشكل سريع، بعض الدول فرضت حظراً للتجوال وأخرى اعتمدت على وعي شعوبها، واتباعهم التعليمات الصارمة للوقاية من الإصابة بالفيروس الذي قد يفتك بك وأنت في عزلتك.
تلك العزلة التي أزعجت البعض، وأعادت ترتيب منهج حياته من جديد، ربما المثقفون والكتاب لم يشعروا كثيراً بتلك الغربة؛ فهم أكثر الناس وعياً بمعاني العزلة التي تثمر عادة عن نتاج أدبي أو عمل ثقافي وفني، وربما الكثير من الكتابات ستأتي خلال الأعوام القادمة تحمل روح الأيام التي نعيشها اليوم، في هذا التحقيق، نستضيف عدداً من المختصين، كلاً في مجاله، ليقدموا لنا رؤية علمية حول تفشي هذا الوباء.

الدكتور إبراهيم الجعفري، دكتوراه في علم الوبائيات والإحصاء الطبي من جامعة لينكولن البريطانية، وأكاديمي في جامعة الباحة، جنوب السعودية، قال:
جميع دول العالم متيقنة بأن الوباء العالمي سوف يكون تحدياً كبيراً في الجانب البحثي لمعرفة الخصائص الإكلينيكية لفيروس كورونا المستجد، تشير الدراسات البحثية السابقة بأن هناك علاقة طردية بين زيادة مستقبلات إنزيم محول الانجيوتنسين (ACE2) والقابلية العالية للإصابة بفيروس كورونا المستجد. إذا بحثنا وتفحصنا الدراسات الوبائية الصينية حول هذا الفيروس، فإننا نستطيع أن نلخص النتائج، ونصوغ سؤال الفرضيات الجديدة لأصحاب الاختصاص في هذا المجال، على النحو التالي:
النتيجة الأولى: تشير الدراسات الوبائية الصينية إلى أن مستقبلات ACE2 التي من خلالها يهاجم الفيروس الخلايا البشرية أكثر لدى الإناث مقارنة بالذكور، بينما معدلات الإصابة بالفيروس والوفيات أعلى لدى الذكور مقارنة بالإناث. لقد قام الباحثون بتحليل بيانات 44.672 مصاب بفيروس كورونا المستجد، حيث اتضح بأن نسبة الإصابة في الذكور 51.4 % أعلى من الإناث، وأيضاً نسبة الوفيات لدى الذكور 63.8 % أعلى مقارنة بالإناث. إذا نظرنا إلى النسبة الكلية للوفيات في السكان مضبوطة بعامل الجنس، فإننا سنلاحظ ارتفاع النسبة لدى الذكور 2.8 % مقارنة بالإناث 1.7 %
سؤال الفرضية الأولى: إذا كان مستقبل ACE2 يزيد لدى الإناث مقارنة بالذكور، فلماذا يكون معدل الإصابة بالفيروس أعلى في الذكور مقارنة بالإناث؟
النتيجة الثانية: تشير الدراسات الوبائية الصينية إلى أن نتائج اختبار الأنسجة الحيوية للحالات الشديدة المصابة بفيروس كورونا المستجد، كان لديها مستقبلات قليلة من ACE2.
سؤال الفرضية الثانية: إذا كانت شدة المرض ووطأة الفيروس قوية جداً لدى المصابين في الحالات الشديدة، فلماذا يكون لديهم مستقبلات قليلة من ACE2؟ نلاحظ في هذه الفرضية بأن العلاقة عكسية حول دور مستقبل ACE2 في زيادة العدوى وشدة الإصابة بالفيروس؛ بمعنى أنه كلما انخفض مستقبل ACE2 زادت الإصابة مع ارتفاع شدة المرض، ومن هنا نقول: هل تلعب زيادة المستقبلات ACE2 دوراً حقيقياً في الإصابة وشدة المرض بفيروس كورونا المستجد؟
النتيجة الثالثة: تشير الدراسات الوبائية الصينية عند اختبار الأنسجة الحيوية للمصابين، إلى أن هناك علاقة عكسية بين مستقبلات ACE2 وعمر المصاب بفيروس كورونا المستجد، فكلما زاد عمر المصاب بالفيروس، انخفضت مستقبلات ACE2.
سؤال الفرضية الثالثة: إذا كان مستقبل ACE2 يقل مع العمر، فلماذا تزيد نسبة الإصابات وشدتها بالفيروس مع كبار السن؟
النتيجة الرابعة: لقد لاحظنا في عدة دراسات صينية منشورة في مجلات علمية محكمة، أن نسبة الإصابة في الأشخاص المدخنين لا تتعدى 15% ولا تتوافق مع النسبة الكلية للمدخنين من السكان والتي تزيد على 50% في جمهورية الصين الشعبية، بينما النسبة الباقية 85% كانت في الأشخاص المصابين الذين لم يسبق لهم التدخين إطلاقاً. كما نعلم من الدراسات السابقة بأن مستقبل ACE2 يزيد لدى المدخنين، مقارنة بغير المدخنين، مما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا المستجد.
سؤال الفرضية الرابعة: إذا كان مستقبل ACE2 يزيد لدى المدخنين، مقارنة بغير المدخنين، فلماذا الانخفاض الكبير في نسبة الإصابة لدى المدخنين؟ وهل يعمل نبات التبغ في الدخان كعامل حماية ضد فيروس كورونا المستجد؟ وهل يمكن إنتاج اللقاح الجديد لهذا المرض من نبات التبغ؟

جائحة كونية سريعة الانتشار
الطبيبة في علم الأمراض الدكتورة مليكة الشيخ محمد قالت:
من الطبيعي - سواء كان العالم يمر بفيروس كورونا أو لا - أن يعتني الإنسان بنظافته الشخصية ونظافة محيطه، فكيف هو الأمر والعالم يعاني هذه الجائحة الكونية بسبب تفشي فيروس كورونا COVID-19 سريع العدوى والانتشار، فمن الأولى الآن أن يتضاعف الاهتمام أكثر من ذي قبل، ومن أهم طرق الوقاية ومكافحة العدوى هو المحافظة على نظافة اليدين بانتظام وعناية، عن طريق غسلهما بالماء والصابون لمدة لا تقل عن عشرين ثانية، أو باستخدام معقم يدين كحولي الأساس لقتل الفيروس، إن علق في الأيدي. إضافة إلى تنظيف الأسطح في البيت والعمل بالمطهرات يومياً.
كما يجب المحافظة على التباعد الجسدي، وفي حال اضطررنا إلى مخالطة الآخرين في هذه الفترة، فيجب أن نحافظ على مسافة لا تقل عن متر، لأن الفيروس ينتقل عن طريق الرذاذ من الأنف والفم، وعندما نكون قريبين من شخص مصاب، وهو يكح أو يعطس، فإننا قد نستنشق هذا الرذاذ ونصاب بالعدوى.
أضف إلى ذلك، ضرورة تحاشي لمس العين والأنف والفم، لأن اليدين قد تمسان أي سطح ملطخ بالفيروس، ثم تنقلانه للجسم، وينبغي صحياً الالتزام باستخدام مناديل ورقية أثناء العطس أو السعال والتخلص منها مباشرة.
ويجب التواصل مع الجهات الصحية المختصة في وزارة الصحة، إن شعر أحدنا بأعراض المرض المشابهة للإنفلونزا العادية، وأهمها: السعال، وارتفاع الحرارة، وضيق التنفس. والبقاء في المنزل وعدم مخالطة الآخرين.
يجب أن يعي الجميع أن التباعد الجسدي، مع مراعاة ما سبق، هو أهم سبل الوقاية من العدوى، لهذا فالابتعاد عن التجمعات، والأماكن المزدحمة، وعدم الخروج من المنزل إلا للضرورة، أصبح أمراً ملحاً على الجميع التقيد به في هذا الوقت بالذات. فالتباعد يعمل على تسوية منحنى انتشار المرض. الأمر الذي يساهم في الحد من تضاعف حالات المرض وانتشارها بشكل مهول في وقت واحد، وليمكّن المنظومة الصحية في الدولة من احتواء المرض، والتعامل معه كما ينبغي.
في ظل ذلك، علينا أن نبقى متابعين وملتزمين بالإرشادات التي تقدم لنا من قبل الأطباء المختصين، والجهات المعنية بصحة المجتمع، محلياً وعالمياً.
قد يتطلب الأمر جهداً وتغييراً في نمط المعيشة، لكن الأمر يستحق، ليس لحماية أنفسنا فحسب، بل لحماية الوطن والمجتمع ومن نحب.

مسؤولية الجميع
مدير إدارة الأبحاث السريرية والتطبيقية، ورئيس قسم اعتماد الجودة بمدينة الملك فهد الطبية في الرياض، الاستشاري الدكتور صالح محمد الغامدي قال:
«ضربت هذه الجائحة دول العالم، دون تفرقة بين نظام صحي وآخر، والسبيل الأوحد للتصدي هو العمل على كل المستويات، وكل بما يخصه ويتناسب مع وضعه، ودرجة مسؤوليته»، مضيفاً أن «الدولة بنظامها ووزارتها تتحمل مسؤولية الحماية والتوعية، بل ويتعدى الأمر للفرض والوصاية، حال تعدي الضرر وضعف المعرفة»، وفي إشارة للجامعات قال بأنها تنال «نصيباً من المسؤولية التوعوية والأكاديمية المتعلقة بالأوبئة والمسح الميداني؛ كونها تغطي نطاقاً عريضاً من المجتمع وتصل لأغلب البيوت».
مضيفاً: «الباحثون ومراكز الأبحاث يتركز دورهم في الاستقراء والبحث قبل وقوع الجائحة، ويجب عليهم تحذير المسؤولين منها، بالاعتماد على المنهج البحثي المنضبط بقواعده، ويمتد دورهم المفصلي أثناء حدوث الجائحة، بالمتابعة وتسجيل الحوادث والملاحظات، واقتراح الحلول المبنية على البراهين، ولهم دور بارز بعد زوال الغمامة وانكشاف الجائحة وبقاء أثرها بدراسة الآثار، وتقييم التجربة، وطرح التساؤلات وما كان بالإمكان فعله ولم يفعل، وما فعل مما لم يكن الأجدر فعله؛ لأن النوازل لها أحكام ويتغاضى فيها لعدم الوضوح، ولكن تؤخذ من نتائجها الدروس».

مظاهر كورونا النفسية
الاستشاري النفسي والعصبي في كلية الطب بجامعة الإمام عبدالرحمن، شرق السعودية، الدكتور سعيد وهاس، قال: «تتباين ردود أفعال الناس تجاه فيروس كورونا وسرعة انتشاره من أُناس لا يبالون ويتهاونون وكأن الأمر ليس إلا مُجرد حدث عابر، فتراهم يعملون عكس اتجاه بوصلة الوقاية، ولا شك في أن النتائج لن تكون مُرضية على كل المستويات، مثل هذا سوف يُساهم في سرعة انتشار الفيروس وما يُخلفه من عواقب ليست مُجرد (فردية) الطابع، كما يعتقد البعض، وإنما يمتد الشرر ليحرق الجميع ويُرهق الأنظمة الصحية ويستنزفها، وربما يشل حركتها، ويُخلف المآسي العظام والتي قد تؤدي للوفاة عند البعض، لا قدر الله».
ويستشهد الدكتور سعيد بمنظمة الصحة العالمية التي أسندت «السبب في سرعة انتشار الفيروس عالمياً ليصبح وباء، إلى التهاون والتساهل وعدم أخذ موضوع انتشاره بالجدية الكافية من قبل الأفراد والمُجتمعات والأنظمة الصحية والدول، على حد سواء، تحت ما أسمته «Alarming Levels of Inaction»، لذا وجب علينا جميعاً، كأفراد ومُجتمعات عامة ومُؤسسات، التعاطي الجاد مع هذا الغازي «الثقيل جداً» بكافة سبل الوقاية المُتاحة والتي لا تكلف إلا الجهد البسيط من الجميع. الواقع أن سلوك الإنسان نفسه ومدى فهمه وإدراكه لمقتضى الحال هو المخرج، لذا علينا جميعاً أن نكون على قدر عالٍ من المسؤولية، على الصعيد الفردي والمُجتمعي، والتعاون مع القنوات الرسمية للخروج من هذا المأزق الصحي العالمي بأقل الخسائر.
في الوقت ذاته، كما يقول الدكتور سعيد، بأن «هناك «أُناساً» لديهم استعداد يتعلق بسماتهم الشخصية، نتيجة خبرات سابقة سيئة تعرضوا لها شكلت هذه السمات، قد يُعانون أعلى درجات الهلع والخوف والقلق، كردة فعل حول ما يحصل، في ظل وجود كمية هائلة من المعلومات المضللة والإشاعات حول فيروس كورونا، وهو شعور مؤلم ومُزعج لمن يعيشه. المخرج هنا في التوكل على الله، بدايةً، ثم العمل بسبل الوقاية ومُتابعة ما يُنشر من خلال قنوات الصحة فقط، وكذلك استشارة المُختصين في الجانب النفسي عند الحاجة، ومُحاربة الشائعات والمعلومات الضالة والمُضللة».
ويضيف: هناك – أناس - لديهم مشاكل نفسية، كاضطراب القلق وما يُصاحبه من سوء المزاج، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين يُعانون قلق الصحة «Health Anxiety» والوساوس المُتعلقة بالتلوث «Contamination» من الجراثيم والميكروبات والفيروسات واضطراب الهلع، فإن فيروس كورونا سوف يزيد من حدة القلق والوساوس والقلق والهلع لديهم، ليُفضي لمعاناة من نوع آخر تُضاف لما يُعانونه أصلاً، هنا التواصل مع المُختصين في المجال النفسي أمر في غاية الأهمية.
وحول نفسية الذين تم احتجازهم للاشتباه بإصابتهم بالفيروس «Quarantining» يقول بأن «العديد من العوارض النفسية قد تظهر عليهم، مثل الضغط النفسي الشديد «Acute Stress» واضطراب ما بعد الصدمة «PTSD» والغضب ومشاعر الإحباط، والخوف من العدوى، والضجر والملل وتحديد المصير والعُزلة، وكذلك وصمة العار«Stigma» المُرتبطة بالعزل، كل هذا يشكل هاجساً صحياً مصاحباً لفيروس كورونا، ليشمل الأمر من لزم مكانه أو بيته تحوطاً لعدم الإصابة، فلربما تظهر عليهم إفرازات وإرهاصات نفسية، تؤدي إلى مُعاناة وسوء جودة حياة، لا تقل أهمية عن الجانب الجسدي للفيروس، لذا تواجد المُختصين النفسيين في المحاجر الصحية أمر في غاية الأهمية، وكذلك توفير الاستشارات النفسية للعامة في منازلهم وعند الحاجة، للتدخل النفسي المُباشر.

علاج مروجي الشائعات
الاستشاري في الطب التلطيفي بمركز الأورام الجامعي بجامعة الملك سعود، الدكتور حسن الخضيري تحدث عن كيفية مواجهة التحديات على مختلف المستويات، قائلاً: إن الحكومات والمؤسسات، وكافة القطاعات الصحية، تقوم بدورها على أكمل وجه، مستشهداً بما قامت به المملكة العربية السعودية في مكافحة الأوبئة، ويقول الدكتور الخضيري: «على الجانب الطبي، قامت الحكومات الخليجية، ومنها المملكة، بمكافحة المرض والتصدي له وفحص من يشتبه بإصابتهم وعلاج المصابين، وقبل هذا وبعده الجانب الوقائي والتوعوي، هناك فرق صحية، يتقدمهم الأطباء، نذروا أنفسهم لخدمة السليم قبل المريض، ولم يفكروا بالعدوى وما قد يصيبهم، وهناك آخرون جندوا أنفسهم، ليلا ونهاراً، للقيام بالدور الاجتماعي والنفسي والأمني ومساعدة الجميع».
وأكد الخضيري أن «وسائل التواصل الاجتماعي سهلت ويسرت كل شيء، إلا أننا نجد من يصطادون في الماء العكر، ويستغلون الأزمات، للعبث بمكتسبات الطب والأطباء، ويبثون الشائعات دون التفكير في العواقب، في وقت الأزمات والجائحات يجد مروجو الشائعات بيئة خصبة لنفث سمومهم وتضليل المجتمع، قد لا يكون الهدف الضرر، بل في أغلب الأحيان يرجُون المنفعة وبحسن نية، أو ابتغاء الشهرة وزيادة المتابعين بوسائل التواصل، وربما فرد العضلات ليقول إنني مثقف ومطلع ومتابع».
ويضيف الخضيري أن «الطامة الكبرى هي فئة لا هدف لهم، وإنما أدمنوا إعادة الإرسال، دون النظر لمحتوى الرسالة، أو قيمتها العلمية، أو درجة ضررها، وجل مؤهلات البعض منهم - وهم قلة بمجتمعاتنا - دكتوراه في الحقد والخبث، أو أستاذ في النفاق أحياناً، وربما بكالوريوس في الجهل والحماقة وأمي في التقنية».
وقال إنه مع بداية «انتشار كورونا بدأ البعض بالتأليف والتصنيف والفتوى وبث الرعب بين أفراد المجتمع، والترويج للشائعات والفتاوى الطبية، دونما علم أو دراية، وقد يجهلون أن تلك المصائب إلى يرسلونها، حتماً ستسير بها الركبان، وأنها للأسف ستدمر حياة إنسان وتهدم مجتمعاً وتهدد مصائر أوطان، لم يدر بخلد من ابتكر أو أرسل الشائعات الصحية لأفراد المجتمع - وإن كان مقصده وديدنه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) - أنه ينشر فيروس الكذب وبكتيريا زعزعة المجتمع وطفيليات التضليل الصحي، وكم كنت، وما زلت، أتمنى لو أن هناك لقاحاً أو علاجاً يداوي مروجي الشائعات، وإن كنت على يقين أن لكل داء دواء، إلا الحماقة أعيت من يداويها».

ما بعد كرونا
الكاتب والشاعر محمد الحرز كتب عن المنطق والفارقة في ظل انتشار الوباء، فقال:
لم تتوحد البشرية خلال تاريخها، سواء على مستوى قضاياها، أو أزماتها، أو حتى مشاعرها، مثلما هي عليه الآن، وبوضوح كبير لا يخفى على أدنى مراقب، وهذا منطق مفارق، بالنظر إلى السمات الكبرى التي تتميز بها حضارتنا المعاصرة.
فما المقصود هنا بالمنطق المفارق؟
إنسان ما قبل الحضارة المعاصرة، لم تكن مشاكله في جميع مجالات الحياة اليومية تتجاوز حدود رقعة جغرافية صغيرة تحت مسميات عديدة، قرية أو مدينة أو حي سكني بسيط، ويكون ساكنوه أو قاطنوه، في الأغلب الأعم يعدون على أصابع اليد الواحدة. فأزمات الحياة الاجتماعية والاقتصادية من تأمين المعيشة اليومية، أو الصراعات العائلية والعشائرية والحروب، أو انتشار الأمراض والطبابة، وعلاقات طقوس العبادة وغيرها، لا تمثل عائقاً كبيراً، فكل مشكلة تنتهي، إما عند سلطة شيخ القبيلة، أو رجل الدين، أو الحكومة على أكثر تقدير. المحصلة، لم يعرف ذاك الإنسان معنى أن يكون الإنسان حراً في تفكيره واعتقاده وفي آرائه، فهو تابع للجموع وسائر معهم في أي اتجاه أو طريق. ولم يعرف أيضاً طريقاً لثقافة الجسد أو صحته، ولا الهواجس التي تصاحب تفكير هذه الثقافة. رغم ذلك، ظل هذا الإنسان ينتج ثقافة عبر تاريخه، سواء كانت فكرية، أو فلسفية، أو روحية ودينية لا تمس قدسية الأرض، ولا تستخف بعناصر الطبيعة فيها. أي أن المعادلة التي حافظ فيها الإنسان على التوازن البيئي والفكري والاجتماعي تتمثل في الآتي: جميع الشعوب التي عاشت على هذه الأرض تركت خلفها موروثاً أدبياً وفكرياً وفلسفياً ودينياً، كانت الأرض أو الحياة الإنسانية على العموم، باعتبارها القيمة المطلقة التي تعادل قيمة الحياة في قلب تصوراتها عن العالم. وعليه فاختلال هذه المعادلة، أدى إلى ما أسميه المنطق المفارق، وحتى تكتمل الصورة أكثر، أطرح السؤال الموالي:
هل اختفت كل هذه المظاهر عن حضارتنا المعاصرة؟
ليس هناك منطق يقيني يقول بفكرة اختفاء ظواهر الماضي كلية عن مسرح الحياة، حضارتنا المعاصرة من جهة - إذا ما أردنا أن نتناول جانباً واحداً من المسألة ألا وهي ثقافة الجسد وصحته - أدخلت الجسد في سياق فكري ساعد كثيراً على تطور صحة الإنسان، وانتشل الكثير من تصوراته السابقة المغلوطة عن جسده. لكن من جانب آخر فكرة الاستهلاك التي تعتبر عصب الحياة المعاصرة، حدت أو قلصت كثيراً من هذا السياق، وبسبب السباق المحموم في فكرة الاستهلاك ذاتها، التي وصلت إلى حد الأزمة العالمية، حيث تكمن تمظهراتها في الكثير من الأزمات الحالية، يكفي الإشارة إلى أزمة الأوبئة التي وإن عرفها إنسان العصور السابقة. لكن الآن اختلف الوضع، أزمة فيروس كورونا، على سبيل المثال، أعطى الشعور الإنساني المشترك - الذي كانت تغطيه أو تخفيه عن الأنظار جملة من الأسباب، أهمها سببان: سرعة الحياة والأنانية المفرطة- الفرصة كي تبرز على الساحة من خلال الخطر المشترك الذي يهددها، الخطر العابر للحدود والذي يهدد وجودها، على هذا الكوكب. لذلك شاهدنا الكثير من عقلاء المفكرين والفلاسفة والمصلحين يدعون إلى التخلي، أو التصدي للمساوئ التي لا تزال تخلفها العولمة على حياة الشعوب وخصوصاً الفقيرة منها، وإعلاء روح التضامن، والرجوع إلى الدولة بوصفها دولة الرفاه، والحد من هيمنة رؤساء الشركات العابرة للدول، والأخذ بيد المنظمات الاجتماعية التي تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه والبيئة ونظافتها بعيداً عن التسييس والتوظيف، فما بعد «كورونا» لن يكون كما سبقه.

عبد الوهاب أبوزيد: لا بد من التعلق بأهداب الأمل!
عبد الوهاب أبو زيد شاعر ومترجم سعودي، شاءت الظروف أن يكون محتجزاً في منزله ضمن العزل المنزلي، نظراً لظروف وجوده في بريطانيا أثناء تفشي انتشار الفيروس على مستوى العالم، فتم عزله من قبل الجهات الصحية، فقدم هذه الشهادة التي كتبها أثناء وجوده في العزل ويقول فيها:
ربما يكون وضعي مختلفاً قليلاً عن غيري، فعزلتي إن صح التعبير مضاعفة؛ لأنني خاضع للعزل الصحي الذاتي في منزلي، وتحديداً في مكتبتي، بعد عودتي قبل أيام من رحلة عمل إلى بريطانيا. المكوث في المكتبة لفترات طويلة كان، ولا يزال، حلماً بالنسبة لي، ولطالما شكوت وتذمرت لغيري أحياناً، ولنفسي في أغلب الأحيان، من عدم قدرتي على تحقيق ذلك أو قدر منه بسبب ظروف عملي، ولكن تحققه بهذه الصورة، ربما حوله من حلم إلى كابوس أو ما يشبه الكابوس، ولا أدري لماذا تذكرت خورخي لويس بورخيس الذي عُيّن أميناً للمكتبة العامة في بيونس آيرس في الوقت الذي أصيب فيه بالعمى! فأنا في المكتبة ليس باختياري الشخصي وبملء إرادتي، بل على الرغم مني. التعليمات صارمة وحازمة باجتناب الاحتكاك والتوصل مع أفراد أسرتي الذين غبت عنهم أسبوعين كاملين، وسأضطر للغياب عنهم أسبوعين آخرين.
وجودي بين أربعة جدران، محاطاً برفوف الكتب التي راكمتها على مر السنين، بالقليل الذي قرأته منها، والكثير الذي ينتظر، ممنياً نفسي بأن الفرصة ستتاح وأن الوقت سيسنح لفعل ذلك، يشكل ضغطاً نفسياً، ويخلق حالة من التوتر والشعور بالإحباط والذنب المضاعفين، الذنب لأنني ما زلت مقصراً وربما مهملاً، والإحباط لأن الطريق لا تزال طويلة، والوعود والعهود التي تطوق عنقي وتثقل كاهلي تجاه كتبي تتراكم، ولا أعرف ما السبيل للوفاء بها.
حاولت أن أستغل وجودي في هذا الحبس الانفرادي وراء قضبان الكتب في إكمال مشروع ترجمة تأخرت في الانتهاء منه، وتخطى موعد تسليمي له، وهو ما تحقق فعلاً. كما ترجمت بعض النصوص الشعرية التي قرأتها مؤخراً وأحببتها، ومن ذلك قصائد مختارة لشاعر يكتب من مكان بين ترينيداد وبريكستون في إنجلترا، كما جاء في التعريف به في آخر مجموعته الشعرية الآسرة (جنة محمولة A Portable Paradise)، والتي فاز عنها بجائزة ت. س. إليوت للشعر لعام 2019. وفي القراءة، حاولت (وما أزال) أن أغالب مزاجي القرائي غير الرائق حتى الآن، وحالياً أقرأ عملين، أحدهما شعري والآخر روائي، في الوقت نفسه. أما فيما يخص الكتابة، فأنا على أهبة الاستعداد للاستجابة لندائها حين تناديني، فلا أجد بداً من الاستماع إليها وتدوين ما تمليه عليّ.
ولأن المرء بحاجة إلى شيء من الترفيه عن النفس، فقد عدت لمشاهدة بعض الأفلام السينمائية التي انصرفت عنها تماماً على وجه التقريب، إما لضيق الوقت، أو لعدم وجود، أو لنقل لعدم وصولي إلى أفلام تروق لي وتوافق ذائقتي التي أصبحت أكثر تطلباً ونزقاً مع تقدمي في العمر.
خلاصة القول هي: لا بد من التشبث بالحياة! لا بد من التعلق بأهداب الأمل!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©