الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جنازة تليق بإنجازاتي

جنازة تليق بإنجازاتي
20 يناير 2020 02:09

كانت لدي روح كل يوم؛ ولكن لم تكن لدي تلك الروح التي يملكها كل إنسان. صارعت للبقاء متفائلاً، لكن فجر كل يوم يخذلني، فأعود إلى مأواي المتهالك لأقضي ليلتي هناك، وأحلم بغدٍ أفضل. الفرص شحيحة أمام أمثالي، إن كان لشحها وجود. في كل يومٍ أتناسى واقعي وأكمل مسيرتي، مسيرتي التي لا أعرف مصيرها. أجزع من الموت؛ ولكني أعلم بأن الموت أفضل لي، بالموت لن يكون للقوي أن يأكلني، ولن أمد يدي طلباً للعون فيبترها البخلاء.
يا أيتها الأرواح المنعمة، التفتي قليلاً، وانظري تحتك، فهنالك أجساد سوف تبصرك بوجوه يائسة وعيون مليئة بالضعف، يلهثون وراء المال وبين الحسد والمتلذذين بالحياة، هل كانت حياتكم ستكمل بدون العطاء؟ عندما أخذت أول فرصة لي بأن أعمل في تغسيل السيارات في أحد مواقف الأسواق التي لم أتجرأ على دخولها، لم تناسبني تلك المهنة لقلة دخلها؛ فقررت أن أذهب لإحدى ورش السيارات وأصبح عاملاً فيها، رغم العناء والعمل المرهق. لقد تجاوزت الأربعين، وها أنا أتحسر وأندم، هل الزمن غدر بأيامي الخالية؟ أتساءل، هل الحظ يكرهني؟ أم أننا لم نتصاحب، لماذا أنا بين إطارات السيارات؟ أبغض كل زبون وهذا كل ما أملك!
في أحد الأيام التعيسة وبينما أنا أصلح إحدى السيارات، جاءني أحد الزبائن. كان مظهره مقارباً لحالتي، كانت سيارته معدمة، وهذا ما رفع من معنوياتي، وما إن ما فتحت باب حياتي المريرة وبدأت أقصها عليه حتى انهمر عليّ بالشكوى من حاله وحال أسرته الكبيرة التي لا يستطيع أن ينفق عليها، وعن كفيله السيئ والقاسي والمتلذذ بمعاناته. كان يروي كل شيء، كأنني صديقه منذ فترة طويلة. من الواضح أن الوحدة قست عليه، فقد كانت حياتنا معاناة في معظمها، فسُلبنا من كرامتنا، لم يكن فقرنا بسببنا، إنما ولد معنا، وكأنه كان ينتظرنا، فنلنا العار معه، وكأنه يقودنا إلى طريق الإحباط واليأس! أصلحت سيارته ودفع نقوداً مجمعة على بعضها بعضاً وكأنه كان يجمعها من كل مكان، نظرت إلى نقوده بكل أسى على حالنا، شكرته وذهب. اتخذته صديقاً، فقد أصبحنا في كل وقت فراغ نلتقي ونتحدث عما يحدث ويحصل وعن روتيننا ونكمل لبعض قصة كفاحنا، تعمقنا في صداقتنا، حتى اقترحت عليه أن أسكن معه وأشاركه في دفع الإيجار، وأترك سكني المتهالك، وافق بشدة، أصبح ينقلني معه صباحاً بسيارته عند ذهابه لعمله وفي المساء يأتي إلى الورشة ويأخذني، عشنا بكل أخوة، ما أجمل تلك الأخوة، فهي بعيدة جداً عن التكلف والتجمل أمام الآخر. كنا نتصرف بعفوية تامة، كنت أعتبر هذه نقلة نوعية في حياتي، خاصة الانحطاط المادي، نتساعد في السراء والضراء، في معابر وطرق الحياة تحتاج لمن يكون بقربك ويساعدك، كنا متكاتفين في هذه المعاناة، نترقب الضوء والقدر الجميل. مضت ستة أعوام من المحبة والصداقة الجميلة الراسخة المخضبة بالكدح، كنت أخشى ذلك اليوم الذي نودع فيه بعضنا بعضاً، ولكنني أتناساه حتى جاء موعد رحيله وعودته إلى أبنائه في خروج نهائي بلا عودة، فقد كبر في السن ويريد أن يعيش ما تبقى من حياته بين فلذات كبده. بكل حرقة ودعته، بأمل أن نلتقي مجدداً، أهداني سيارته الهالكة كآخر ما تبقى له وذهب.
اشتد بي اليأس وبدأت أرى حياتي مملة. فقدت شبابي وطاقته بما أنهكت فيه، بدأ روتيني يقتلني، فأنا كل يوم أقابل أصنافاً من الناس، والكثير من التوبيخ، كنت أنظر إليهم نظرة عطف على قلوبهم السقيمة، لعلهم كانوا يبادلونني النظرة، تبلدت مشاعري تجاه كل حيّ وجماد. بدأت حياتي ناقصة كثير من الأمنيات التي لم أحققها، وستنتهي بنقصها، بدأ التعب يجتاحني، ونشاطي وحركتي يبدوان وكأنها في آخر مرحلة لهما. روتيني الذي لا يتغير لسنوات عديدة جعلني أحتضر، بيئة عملي ودخان السيارات وكد العمل أتعبتني جسدياً ونفسياً، فقد تشوهت يدي وأصبت بالربو، وفي لحظة بينما أنا على فراشي، انهمرت دموعي بلا أي سبب مقنع، إنها دموع العجز، فقد بدأت حياتي تضيق وكأن الضوء بدأ كبيراً ثم تلاشى، كان إصراري على أن أغدو متفائلاً، يظهر بأنه لن يبقى لمدة طويلة، ستبقى ذكريات طفولتي التي عشتها في ذل محفوظة في قلب أقساه الزمن، لم أكن أعلم أن هذا فراش الموت كما يسمونه، وأننّي سأنام طويلاً بدموع تشربها جلدي، كنت أنظر بأسى ماذا قدمت لحياتي؟ لعلها ستكون جنازة بسيطة، يحضرها العاملون في المقبرة ومن يريد الأجر، روحي سئمت مني منادية الموت بأن يأخذني في جنازة تليق بإنجازاتي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©