الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الإرث المباح

الإرث المباح
27 يونيو 2019 00:01

هل يمكن أن يتخلّص، أو يتخفف، الأديب أو الفنان أو المفكّر، من مفردة التراث في ما يكتب، وإلى أيّ مدى يكون للتراث سطوته وحضوره أو هيمنته؟!، وبالمقابل هل يمكن أن نبرر خروج كتّاب بعينهم على تراثهم، على اعتبار أنّه من الماضي، وأنّه ما من وسيلةٍ لاستحضاره في نصوص إبداعيّة على سبيل المثال، أو فكريّةٍ في مقايساتٍ تاريخيّة؟!.

رغم خطورة السؤال، ما يزال لمفردة الماضي حضورها، وما تزال ثمّة قدسيّة ما في ما نتركه أو نؤلّفه، وإلا كنّا مُنبَتّين، نتبنى نظريات غيرنا دون التحقق منها أو النظر حتى في فحواها، وقد جرّب شبابٌ وباحثون وكتّاب أن يقطعوا كلّ خيطٍ مع الماضي، لكنّهم عادوا بعد فترةٍ وهم أشدّ إيماناً بأصالة التراث، فعادوا إلى عباءته، ينهلون منه ما يفيدهم في راهنهم الذي تضطرب فيه القيم والثوابت، فكان أن رأينا الشاعر وهو يستدعي التاريخ في أبيات قصيدته أو سطور نصوصه، مثلما طالعنا ما يضمّنه الروائيّون أعمالهم بين زمنين، خصوصاً إن هم تلبّسوا اللبوس الإنسانيّ واستهواهم «الآخر» في فكره ورؤاه وما ينطلق منه في هذا الموضوع أو ذاك.
ويبقى التراث ذلك المعين، والمنبع الذي لا ينضب، والأمّ الرؤوم التي ما إن يعقّها أبناؤها حتى يعودوا وهم يشعرون بفداحة أن يتخلّوا عن هذا الرباط المقدّس المتين، ويظلّ التراث ماضينا الذي به نعتز وعنه ننافح، خصوصاً حين نعلم كم هي عظيمةٌ ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة في تعاطيها الإنسانيّ وتسامحها ورونقها وبهائها الذي ما يزال صالحاً، يؤمن بالآخر ولا ينكره، فهي ثقافة عريقة علينا أن نبقى على اتصالٍ بها، لتظلّ تردّنا إلى حقيقتنا الفطريّة الأصيلة إن هي واجهتنا هوج الرياح أو هجمت علينا عاتيات الأيّام.
لكن هذا الموضوع، ونظراً لأهميته، فإنه يطرح إشكاليات عديدة: فهل يكون التراث واحداً من مكبلات الإبداع كما يقول البعض، أم إنه قادر على بث تجليات جديدة ومتجددة في عصب النصوص؟ وبما إنه إرث مباح، هل يجوز الإعراض عنه، فقط لأنه ينتمي إلى الماضي؟
في هذا التحقيق، نحاور شعراء وأدباء وكتّاباً وفنانين، حول مدى حضور المفردة التراثيّة في الأعمال الإبداعيّة الإماراتية، وذلك لنتعرّف على نظرتهم لهذا التراث، ومدى اهتمامهم بنوع من المعالجة أو القراءة المغايرة له، المهم ألّا يغيب على الأقلّ في نصوصنا المتعددة ما بين الأدب والفكر والفن وسوى ذلك، ليظلّ هذا التراث الوجهة التي نفد إليها ونحتمي بها، في المفردة، أو الأسلوب، أو النمط أو التفكير أو المدرسة الأدبيّة أو الفكرية.

انحياز
الشاعر والمستشار في التراث الثقافي رئيس معهد الشارقة للتراث الدكتور عبدالعزيز المسلّم يؤكّد أنّه جميلٌ أن نضمّن أعمالنا الإبداعيّة تاريخنا أو شيئاً منه، والأجمل هو أن نشتغل على هذا التاريخ اشتغالاً إبداعياً غير مباشرٍ، كأن نعمد إلى الاستدعاء والتوظيف والإسقاط، كتقنية إبداعيّة تحمل إلى المتلقي  شعرنا على سبيل المثال، أو أعمالنا الروائيّة، أو حتى حين نضمّن لوحاتنا التشكيليّة وأعمالنا الحرفيّة الإبداعيّة وجهنا الشرقيّ والعربيّ والخليجيّ والإماراتيّ، وما ينطبق على هذا المثال، ينسحب أيضاً على الشعر، وبقيّة أجناس الأدب وصنوف الفنّ.
وحول حضور المفردة التراثيّة في شعره، يقول: لصلتي الأكيدة بالتراث، بحكم اشتغالي فيه وإيماني المطلق بقيمته، ولأننّي دائماً ما أرى ماضي أهلنا الطيبين فيه ورائحتهم خلاله، .. فليس غريباً أن أنحاز إليه، ولكنّه ليس الانحياز الذي ينكر جماليّة تراث غيرنا أو فاعليّته، غير أنني أرى أنّ قراءة التاريخ واستحضاره أمرٌ ليس بالسهولة التي يظنّها كثيرٌ من الناس، فالمسألة ببساطة هي في أنّ مجرد تداولنا لمفردة تراثيّة والاشتغال عليها وفق سَمْتٍ إبداعي وفضاء عالي المزاج، هو أمرٌ طيّب ومريح، لأنّ في هذا الاستحضار ترويجٌ أولاً لفكرنا وقناعاتنا ولأننا حينها سنكون أكثر قوّةً أمام غيرنا من الحضارات والثقافات، كما أنّ الغاية المتوخّاة من الإبداع الذي يتضمّن هذا التراث هي في أنّ المفردة التراثيّة تُعدّ مصدر غنىً وثراء حقيقياً لنصوصنا أو أعمالنا الفنيّة أو معروضاتنا التشكيليّة، لأنّ المجال سيتّسع حينئذٍ بالمقارنات والاستنباط وفتح مساحة التأويل، وهو ما يعود بالنفع على الأدب أو العمل الفنيّ، ولدينا في الواقع الكثير جداً مما لا تحصى فوائده في جغرافيتنا العربيّة ومعالمنا وأحداثنا التاريخيّة وبطولاتنا المشرّفة وإنسانيّتنا التي رسّخها هذا الدين السمح، لدرجة أنّ صاحب السّمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة قد ضمّن مفرداته الشعريّة هذه الثقافة وحثّ عليها، بل وكتب مسرحيّةً استدعى فيها كلّ هذا التاريخ العظيم، من خلال المسرحيّة التي أبدعها سموّه بعنوان«كتاب الله: الصراع بين النور والظلام».
ويتابع المسلّم: بالنسبة لي وفي ما أكتبه من شعر، فقد ارتبطت بهذا الإرث الجميل الذي اندمجت فيه بكلّ الفرح والحب، حتى في أحلك ساعات التعب كنت أرى الواجب يطمئنني بأنّ نداء الحفاظ على التراث والعناية به يجب أن يظلّ عالياً، ولذلك فقد ضمّنت شعري كثيراً من هذا، إن كان على مستوى المفردة التراثيّة أو استشفاف معناها وتوظيفه والاحتكام إليه إن أحسست بغربةٍ ما في زحمة هذه الحياة.
ويؤكّد المسلّم العلاقة الوثيقة بينه وبين التراث في أعماله الإبداعيّة، قائلاً: إذن، فهي روح تراثيّة تتلبّسني، فلا أستطيع الانفكاك من هذه الروح، وتبقى عملية المعالجة والاستفادة من التراث الماديّ أو غير الماديّ مسألة خاصة بإبداع الشاعر ومدى ثقله أو خفّته على المتلقي في هذا التوظيف، الذي هو في الواقع أبعد ما يكون عن الترويج المباشر، وإلا فإنّ الشعر عندها سيفقد بالتأكيد بريقه وملمحه الخاص به كفنٍّ إبداعي جميل.
ويرى المسلّم أنّ إشكاليّة النقد حول مدارس الشعر وتقنياته وشكله وأسلوبه على سبيل المثال، لا تنفي أننا نستطيع تضمين تراثنا في كلّ المدارس الشعرية، إذ يقول: لكنني أرى أن الروح الإبداعيّة في الشعر مثلاً هي التي تحدد هل تخلينا في إبداعنا عن هذا التراث أو أهملناه، أم بقينا محافظين عليه، فهل مجرد بقائنا على قصيدة الخليل بن أحمد الفراهيدي في القصيدة الكلاسيكيّة هو إخلاص للتراث الشعري كأسلوب على سبيل المثال؟!.. وماذا لو كتبنا التفعيلة أو النص النثريّ، وأبقينا تراثنا يتخلل المادة الشعريّة؟!.. أعتقد أنّ الوضوح في القصيدة أو الرمزية فيها يدخلنا في مدارس الحكم على جودة النصّ الإبداعي، ومدى نصاعته أو قوّته في عيون النقّاد، فهي مدارس ما تزال، وأعتقد أنّ مجرّد أن تكتب باللغة العربيّة الأصيلة هو إخلاصٌ للتراث اللغوي، كما أنّ توشية القصيدة أو البيت بملمح تراثي يدلّ علينا هو بحدّ ذاته إخلاصٌ أيضاً لهذا التراث، مثلما أؤمن بأنّ علينا ألا نتناسى وجودنا وأن نرتّب مواضيعنا ترتيباً- لا يكون ثقيلاً- بل إنسانيّاً يدخل فيه التراث، ودخول التراث هذا له صور عديدة ليس هنا مجال تعدادها أو شرحها، لكن، ما الحد الذي يجب أن نتوقّف عنده، فنقول: بعد هذا لا يكون التجريب، بل «التخريب»؟!.. أعتقد أنّ هذا الأمر هو مسؤوليّة النقّاد والأقلام الإعلاميّة الدؤوبة وكلّ الجهود المخلصة في استعادة وجوهنا الأصيلة كلّما غبنا أو تنكرنا لأنفسنا أو عنها بحجّة التجديد.

جذور
الباحث والكاتب والفنان التشكيلي علي العبدان، يقول: حضور المفردات التراثية في العمل الأدبي والفني أصبح ضرورة من ضروريات الحفاظ على التراث الثقافي والهوية الوطنية، ولذلك نلاحظ عودة كبيرة إلى الاهتمام بالمفردات التراثية، والبحث العلمي فيها على مستويات عدة، واستخدامها في الأعمال الفنية والأدبية، ومن جهتي أنتجت عدة أعمال فنية وأدبية كان أحد أسباب نجاحها استخدام المفردات التراثية النادرة، مثل المسلسل الإذاعي «سبع صنايع» الذي كتبته نصه ومثلتُ في بعض حلقاته أيضاً، ففي هذا المسلسل ذكرت الكثير من المفردات المتعلقة بمهن الماضي، وهذا ما جعل المسلسل أكثر قبولاً من الناحية الاجتماعية لأنه أنعش الذاكرة الجماعية في هذا السياق الذي يتعلق بالعمل والرزق في الماضي، كما استخدمت بعض المفردات التراثية لعنونة بعض لوحاتي الفنية، وكنت أكتب العنوان مباشرة على بعض اللوحات، وهذا ما أدى إلى مزيد من الاهتمام بها، بل واقتنائها كذلك.

أسطورة
وقالت د. اليازية خليفة، مدير ومؤسس الفُلك للترجمة والنشر: إن تجربتي الوحيدة في هذا الصدد هي قصتي المنشورة لليافعين بعنوان «شيرة الهمبا» تقع في 7500 كلمة، والحوار فيها 600 كلمة وهو باللهجة المحلية، بينما السرد باللغة العربية الفصحى، قارئ القصة يلاحظ أنني تركتها بعفوية الأحاديث اليومية للجدّات، كي يتعرف على البيت الإماراتي الدافئ، ومبادئه في احترام الكبير وتوقيره، والعطف على الصغير، في حفظ النعمة وأهمية الزراعة عندنا، كما حرصت على إبقاء الحوار باللهجة كي أحافظ على روح القصة، وأضفت معاني المفردات على الحواشي لثلاثة أسباب: الأول كي يتضح للقارئ أن الكثير من مفرداتنا التراثية هي مستنبطة في الأساس من اللغة العربية، والثاني كي يتعرف القارئ على اللغات التي أثرت في لهجتنا، والثالث كي أعيد إحياء كتابة الملاحظات على حاشية الصفحة.
وأضافت: النية موجودة لاستكمال سلسلة لليافعين بنفس طريقة قصة «شيرة الهمبا»، إلا أنني أرى أن الإبداع الأدبي لا حدود له، فيمكن للكاتب أن يؤلف قصة كاملة حول مفردة تراثية واحدة، ولكن يلتزم بنصٍ كاملٍ باللغة العربية الفصحى، تصل القارئ العربي حيث كان، فيعزز بذلك من فهم القارئ للشعب الإماراتي ذي اللهجات المتنوعة، أما من يؤلف الروايات عن المجتمع الإماراتي فلابد له من استخدام المفردات - وإن كانت مفردات فحسب من دون استخدام اللهجة في الحوار- لأن ذلك سيخدم الراوي في عكس نمط الحياة والتركيبة الأدبية للمجتمع.

ظاهرة
وأكدت الكاتبة والناقدة د. مريم الهاشمي أن مجتمع الإمارات يجمع بين الحداثة والقدم، وقد يكون متفردا في المنطقة كأنموذج حضاري نجح في التوفيق ين الغربي والتراث في أكثر من منحى من مناحي الحضارة، والتراث بشكل عام يؤثر في العملية الإبداعية في حقول الفن والإبداع كافة، بل إن هذا ما يعطيه التميز والتفرد أمام نسخ كثيرة متوافرة في العالم، ولكن في الوقت ذاته يصبح التمسك بالميراث القومي الذي يشكل المأثورات الشعبية من أبرز عناصره مطلباً ملحاً للدفاع عن التراث، تلك المأثورات التي تفاعلت وتصارعت واحتكت بالثقافات المجاورة وتواترت عبر الأجيال، لتشكل  كل ما صدر عن جميع فئات المجتمع وطبقاته من إبداع وشعائر وطقوس ومراسم ومعتقدات لتخلق  ثقافة خاصة تمثله مثل: اللغة والموسيقى والأشعار والأهازيج والأزجال والرقص والحكايات والصناعات والحلي.. وغيرها.
وأضافت الهاشمي: إن الأدب ظاهرة إبداعية واجب حضوره إلى جانب الأنماط  الفنية والإبداعية والإنسانية الأخرى التي تعمل يدًا بيد في تشكيل الحضارة، فجاء متأثراً تأثراً حتمياً بالثقافة والبيئة والحياة الاجتماعية والاقتصادية، هذا فضلاً عن التحولات الفكرية والسياسية التي شهدها العالم العربي. وجاء التعبير عن المجتمع ومكنونانه باللغة، اللغة شعراً ونثراً، وما اللغة سوى انعكاس لطبيعة المجتمع وتأثر بكل برمجاته، لذا من الطبيعي أن يظهر متأثراً وألّا يفشل في  تحقيق هدفه، ويأتي الإبداع مستنداً غالبا إلى جزالة ومتانة وتراكيب عبر رؤى فرضتها البيئة والحياة، ولتبرز ما يختلج في نفس المبدع وتبين الارتباط الوثيق بالتراث التاريخي والقيم الفاضلة.
وأوضحت الهاشمي أن من الأمثلة على تأثر الإبداع الأدبي بالتراث، نجد من خلال بنية القصيدة العربية الحديثة، ومنذ بدايات القرن العشرين ملامح من الثقافة الغربية وأساليبها بحكم التواصل الثقافي الكبير، وأصبحت ظاهرة استدعاء الشخصيات الأسطورية والتاريخية والأدبية تستلفت الانتباه في شعرنا، وكذلك ظاهرة الحنين بالالتفات إلى الماضي وجدت مكاناً واسعاً عند شعراء العصر الحديث في منتصف القرن التاسع، كما أن شعوب شبه الجزيرة العربية والخليج العربي شعروا بقصورهم الفكري والثقافي عن نيل حريتهم أمام الدول العربية الأخرى التي بدأت تنال استقلالها في تلك الفترة.
وختمت: ولاختيار تلك الأحداث التاريخية نظرة واقعية لها دلالتها الشمولية الباقية والقابلة للتجدد، والصالحة للتكرار من خلال موقف وأحداث جديدة، يبقى صداها على مر التاريخ ليكسب التجربة نوعاً من الكلية والشمول، وليضفي عليها ذلك البعد التاريخي الحضاري، الذي يمنحها لوناً من جلال العراقة، ولا يتجلى هذا الوعي إلا إذا استطاع المبدع  أن يختار من التراث والشخصيات والأحداث التاريخية ما يوافق وطبيعة الهموم.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©