الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إمام عبد الفتاح إمام.. لسان هيجل العربي

إمام عبد الفتاح إمام.. لسان هيجل العربي
27 يونيو 2019 00:01

في أسبوع واحد غادر عالمنا ثلاثةُ أكاديميين مصريين مرموقين؛ أستاذة جليلة للأدب الفرنسي، مديحة دوس، وأستاذان قديران في الفلسفة، فضلاً عن إسهاماتهما الكبرى في الترجمة، هما المرحوم عزت قرني أستاذ الفلسفة الحديثة، ومؤرخ الفكر الفلسفي المعروف، والآخر هو الدكتور إمام عبد الفتاح إمام صاحب الإنجاز الضخم، والمؤلفات القيمة، والترجمات الغزيرة، وصاحب المكتبة الهيجلية الضخمة في الفكر العربي المعاصر.

لم يكن المترجم والباحث المخضرم الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، الذي رحل مساء الثلاثاء من الأسبوع الماضي عن 85 عاماً مجرد أستاذ للفلسفة، يقوم بإعداد المحاضرات وإلقائها، ويكتب البحوث المحكّمة، ويترقى في سلك الأستاذية في الجامعة؛ بل كان إمام مثقفاً عضوياً بكل ما تعنيه الكلمة؛ بالأدوار العلمية والأكاديمية التي مارسها طوال ستة عقود متصلة في الجامعات والمؤسسات المصرية والعربية، وبالمشروعات الفكرية والثقافية الضخمة التي أنجزها، وبالكتب التي ترجمها وراجعها وقدم لها أو أشرف على ترجمتها.
حياة حافلة ورحلة طويلة خاضها الرجل منذ ميلاده في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى رحيله؛ تتلمذ على يد أكبر وأشهر اسم في تاريخ تدريس الفلسفة في العالم العربي كله؛ أقصد الدكتور زكي نجيب محمود، وتتلمذ أيضاً وزامل أسماء كبيرة جداً؛ أصحاب إنجازات ضخمة بقيمة فؤاد زكريا، ومحمود رجب، وحسن حنفي، ولم يكن إمام عبد الفتاح إمام أقل منهم في منجزه وقيمة ما تركه من أعمال مؤلفة ومترجمة تجاوزت المئة كتاب!

رحلة مثيرة
بدأت الرحلة المثيرة في حياة الرجل الموسوعي في نهاية الستينيات من القرن الماضي، بحصوله على الماجستير من كلية الآداب قسم الفلسفة، بجامعة عين شمس المصرية، عن «المنهج الجدلي عند هيجل» عام 1968، أعقبها حصوله على الدكتوراه عن رسالة بعنوان «تطور الجدل بعد هيجل» عام 1972.
ولم تكن هاتان الرسالتان مما يتم مناقشتهما ويمنح صاحبهما الدرجة العالمية والمكانة الاجتماعية وجواز مرور التدريس لصاحبها فقط، بل كانتا حجر الأساس في تدشين واحد من أكبر المشروعات الفكرية الشارحة في الثقافة العربية؛ إذ قرر إمام عبد الفتاح إمام أن يتصدى لمهمة ترجمة ودراسة وتحليل التراث الفكري والفلسفي لرائد الفلسفة المثالية الألمانية في القرن الثامن عشر فردريش هيجل؛ أحد أبرز- إن لم يكن أبرز- الأسماء المؤثرة في تاريخ الفكر الأوروبي المعاصر، ويعكف إمام طوال ربع القرن تقريباً في إخراج المجلدات والأجزاء المتصلة المتتابعة من الأعمال الكاملة لهيجل.
قبل عبد الفتاح إمام كان الفيلسوف الألماني حاضراً في الثقافة العربية، لكن في دائرة خاصة ومحدودة، وفي نطاق ضيق للغاية في دوائر الأكاديميين المتخصصين في الفلسفة الحديثة والفكر الأوروبي المعاصر، أما بعد أن تصدى إمام لترجمة وإخراج مكتبة المؤلفات الهيجلية إلى اللغة العربية، فقد انتشر على نطاق واسع التعريف بهيجل والجدل الهيجلي وتأثيراته المتشعبة في شرايين وأوردة الفكر الأوروبي والإنساني كله.
ويعد كتابه «المنهج الجدلي عند هيجل»، الذي صدر للمرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي عن دار المعارف المصرية، ضمن إصدارات (مكتبة الدراسات الفلسفية) العظيمة، أحد الكتب التأسيسية التعريفية بفلسفة هيجل، وعرض مذهبه، والشارحة في الآن ذاته لفكرة الجدل، و«المنهج الجدلي» و«المنطق الهيجلي» في المجمل، وبرع إمام في هذه الدراسة في عرض كل الآراء التي تعرضت لهذا المنطق بين الأنصار والخصوم، ليصبح كتابه هذا واحداً من الدراسات المرجعية الكبرى في المكتبة الفلسفية العربية المعاصرة.

في الكويت
كان سفر إمام عبد الفتاح إمام إلى الكويت في السبعينيات ليساهم في تأسيس قسم الفلسفة بجامعة الكويت الوليدة؛ نقلة كبرى في مسيرته العلمية والأكاديمية، وقد استقطبت جامعة الكويت آنذاك صفوة العقول المصرية في جميع التخصصات والعلوم الإنسانية.
هناك، وبرفقة أستاذه وصديقه وزميله الدكتور فؤاد زكريا رائد العقلانية النقدية في الفكر العربي المعاصر، واصل إمام إنجازاته العلمية وبموازاة مشروعه الضخم عن هيجل ساهم إمام في مشروع آخر كبير، وهو التعريف بتيار الوجودية في الفكر العربي المعاصر، وقام بمفرده بترجمة بعض النصوص التأسيسة لهذا التيار، وترجم أيضاً بعض الدراسات والكتب المرجعية عنه، ومثّل ما قدمه إمام عبد الفتاح إمام، من كتب مؤلفة ومترجمة ومقالات ودراسات وبحوث عن الوجودية، مدخلاً لا غنى عنه لأي باحث أو قارئ مهتم بهذا التيار الفلسفي والفكري المؤثر في مجريات التاريخ والثقافة والفنون والآداب في القرن العشرين.
وخلال الفترة الطويلة التي قضاها إمام بالكويت، وتدرج خلالها في السلك الجامعي حتى ترأس قسم الفلسفة بكلية الآداب هناك، نشر إمام العديد من البحوث والمقالات والدراسات في أبرز المنابر الثقافية والفكرية المعروف آنذاك؛ مجلة (العربي) الكويتية الشهيرة، مجلة (عالم الفكر) الرصينة، فضلاً عن ما كان ينشره في الدوريات العربية والمصرية الأخرى؛ وبخاصة المقالات التحليلية المركزة عن فلسفات «الحق»، «القوة»، «التاريخ»، «المنطق»، في مجلة (تراث الإنسانية) التي كان يترأس تحريرها فؤاد زكريا.
من أبرز ما أخرجه إمام في هذه الفترة من كتب ومؤلفات، بعد كتابه عن «المنهج الجدلي عند هيجل»، كتابه الممتاز «مدخل إلى الفلسفة»، وكتابه المرجعي «سورين كيركجورد ـ رائد الوجودية» في جزأين ضمن سلسلة (شخصيات فلسفية)، وترجم أيضاً ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أكتوبر 1982، كتاب «الوجودية» الضخم لـ جون ماكوري، ومن تقديم فؤاد زكريا.
وفي مستهل التسعينيات من القرن العشرين، يترجم إمام الكتاب الموسوعي «المعتقدات الدينية لدى الشعوب» من تحرير جفري بارندر، ومراجعة الدكتور عبد الغفار مكاوي. وهو كتاب ممتاز يدور حول ديانات الشرق القديم، ومعتقداته وطقوسه وعاداته الشعائرية؛ ألوان شتى من الديانات القديمة في الشرق والغرب على السواء، ليعقبه بمراجعة ترجمة كتاب «الفكر الشرقي القديم» الذي يعد بمثابة الجزء الثاني من كتاب «المعتقدات الشعبية»، يكمل صورة الفكر الشرقي عندما يعرض هذه المرة فلسفاته، ومن هنا كان الكتابان أشبه بكفيّ القفاز كل منهما يكمل الآخر على نحو ضروري؛ ويوضح إمام أن مؤلف الكتاب «جون كولر» ينتصر للرأي الذي يرى أن هناك فلسفات شرقية لا تقل في عمقها ودقتها وأصالتها عن فلسفات الغرب. ويوضح أنه كتب الكتاب وفي ذهنه غايتان؛ الأولى مساعدة القارئ على فهم العقل الآسيوي، والثانية تعريفه بالمشكلات الأساسية في الفلسفة الشرقية. مشدداً على الدعوة إلى أن نفهم هذه الفلسفة على نحو ما فهمها أصحابها، بمعنى ألا نحاول أن نفرض عليها مفاهيم جاهزة مستمدة من الفلسفة الغربية، إن علينا، كما يقول، أن ندرس الفلسفة الشرقية في إطار معاييرها الخاصة.

مكتبة كاملة
حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كان ما قدمه إمام في مساراته الثلاثة المتوازية كبيراً وضخماً؛ في مسار إخراج المكتبة الهيجلية الكاملة كان تقريباً أنجزها بالكامل وصدرت في مجلدات متعددة عن دار التنوير البيروتية. وفي مسار التعريف بالمذاهب والتيارات الفلسفية الحديثة قدم إمام ما قدمه عن الوجودية وأعلامها وأبرز أفكارها. وفي الترجمة، كنشاط معرفي مستقل، كان المشروع القومي للترجمة آنذاك (قبل ظهور المركز القومي للترجمة بالقاهرة إلى النور في 2006) قد بدأ نشاطه، ومارس إمام من خلاله أحد مشروعاته الكبرى بنقل الموسوعات الفلسفية العالمية الضخمة إلى اللغة العربية، وغيرها من الأعمال التعريفية والتأريخية بالفلسفة الحديثة.
في ذلك الوقت، ظهر كتابه الرائع الذي صدر في سلسلة عالم المعرفة الكويتية بعنوان «الطاغية ـ دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي»، في مارس 1994، ومنذ صدوره وهو يحتل مكانه بين الدراسات والكتب المرجعية في بابه؛ يشرح في مجمله ظاهرة الطغيان السياسي، والاستبداد وفساد الأنظمة ويطرح تصنيفاتٍ لأشكال الديكتاتورية؛ منذ عهود التاريخ القديمة حتى التاريخ المعاصر، مروراً بالتاريخ العربي والإسلامي الوسيط..
وبرغم ما قدمه إمام من أعمال ومؤلفات وترجمات حتى هذا التاريخ قد دشنت اسمه باعتباره واحداً من كبار الأساتذة والمفكرين والمترجمين في الثقافة العربية، فإن هذا الكتاب قد حقق له شهرة «طاغية» بكل معنى الكلمة، نفدت طبعته الكويتية فور صدوره، وأعيد طبعه مرات ومرات في مصر وخارجها، وذاع صيت الكتاب وانتشر كما لم ينتشر كتاب آخر، ورغم انتمائه لدوائر معرفية مركبة ومتداخلة (علوم التاريخ والسياسة والتنظير الفلسفي) وطابعه الفلسفي التجريدي، فإنه بفضل براعة إمام الأسلوبية وتمكنه من الكتابة والصياغة العربية السلسة الشارحة ذاع الكتاب وحظي بقبول واسع وغير مسبوق.
كنت قرأت الكتاب للمرة الأولى وأنا في الجامعة (في عام 1997)، وتوقفتُ طويلاً أمام الفصل الذي خصصه إمام للطاغية «يرتدي عباءة الدين في العالم الإسلامي». ولو لم يكتب إمام إلا هذا الفصل لكفاه وأغناه؛ إذ كان من الكتابات المبكرة التي كشفت زيف ادعاءات تيار الإسلام السياسي وكذب مقولاتهم في الحكم والسلطة، في وقت كانت هيستيريا ما يسمى بالصحوة طاغياً وعاماً وشاملاً كل بقاع العالم العربي والإسلامي تقريباً.
استهل إمام هذا الفصل بمقدمة بدتْ لي غريبة حينها؛ إذ كأنه كان يقدم اعتذاراً مسبقاً لتبرير ما سيورده من وقائع مثبتة في كتب التاريخ الإسلامي «المعتمدة» من فقهاء ومحدثي السنة عن تجارب الحكم والخلافة. وكانت المرة الأولى التي أقرأ فيها التناقض الرهيب بين ما يتم تصديره من أفكار براقة ومثالية تخطف قلوب العامة وتستميل أفئدتهم وبين الواقع الأسود المرير، واقع راح ضحيته مئات الألوف من المسلمين في صراعات ومعارك وحروب، وكل طرف أو فريق يرفع راية «الحق» ويعلن أنه «الفرقة الناجية» أو في المقابل ستجد من يقول «هذا قميص سربلنيه الله.. ولن أخلعه أبداً».. أو من يقول «أحكم بعهد الله.. وأنا ظل الله في أرضه»..
تذكرتُ هذا الكتاب الذي استدعى إلى الذاكرة أيضاً ما يكتبه أنصاف المتعلمين وأرباع الذين يدعون أنهم «دعاة»، ويستحلون التصدي لكتابة «التاريخ كما يتصورونه» أو التاريخ «كما يزورونه»..

كتب مرجعية
لقد ترك إمام عبد الفتاح إمام وراءه مكتبة كبيرة حقاً، ترك أعمالاً مؤلفة ومترجمة تستحق البقاء، ولا أتصور أحداً يشتغل بالعلوم الإنسانية والفكر والثقافة، ولم يفِد بصورة أو أخرى من واحد من هذه الأعمال المرجعية المهمة. كان - رحمه الله- أحد المعابر متعدية الثقافات والجسور المعرفية النشطة التي نقلت تراث هيجل الفلسفي إلى اللغة العربية؛ وصاحب المؤلفات الكبرى في التيارات والمذاهب الفلسفية، وعلى رأسها تيار «الوجودية» التي ساهم مساهمة كبيرة في التعريف بها وبسياقها المعرفي والثقافي وأعلامها الكبار ونصوصها التأسيسية، كما لم يقدمها أحد مثله في الثقافة العربية المعاصرة. وفي كل ما قرأتُ للمرحوم إمام عبد الفتاح، فإن أعماله كلها تشهد بطول الباع، ودقة البحث، واتساع الأفق، والقدرة على صياغة وشرح أفكار ومفاهيم مركبة ومعقدة غاية التعقيد (بحكم طبيعتها وسياقاتها الفلسفية والمعرفية) بلغة عربية ناصعة وسليمة ومفهومة.
وأما جهوده في تيسير الثقافة الفلسفية، والمعرفية، للناشئة والأجيال الجديدة، من خلال تأليف الكتب المبسطة عن مفاهيم فكرية وثقافية «التنوير» و«ما الفلسفة؟».. إلخ، فضلاً عن إشرافه وترجمته على سلسلة الكتب المصورة (أقدم لك) التي تصدر عن المركز القومي للترجمة، فكلُّها أشهر من أن يعرف بها أو يُعاد ذكرها، وهي في كل الأحوال تشكل مكتبة ضخمة غزيرة العدد عالية القيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©