الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في مرايا الآخرين

في مرايا الآخرين
4 يوليو 2019 00:28

كان لبنان- ولا يزال- بلداً طارداً لأبنائه، خصوصاً في الأزمات المستعصية وتلك شبه المستعصية التي مرّ ويمرّ بها، وذلك قبل تشكله بسنوات طويلة كدولة مستقلة في العام 1943، وبعد ذلك بطبيعة الحال. ولذلك عرف أبناؤه انتشاراً واسعاً في قارات العالم أجمع، حتى بلغ تعداد اللبنانيين المهاجرين، والمتحدرين من أصل لبناني، قرابة العشرين مليون مهاجر، بينهم حوالي الـ12 مليوناً في البرازيل وحدها؛ في حين أن اللبنانيين المقيمين في وطنهم لا يزيدون على 4 ملايين نسمة حتى الآن.

الهجرة اللبنانية هجرات.. منها هجرات على المدى الطويل أو اللاعودة إلى الوطن الأم. والأخرى هجرات مؤقتة، مهما طال أمد أفرادها وعائلاتهم في الخارج، فمعظمهم سيعود إلى أرض الوطن الصغير.
بدأت هجرات اللبنانيين على المدى الطويل، أو رحلة اللاعودة إلى الوطن، منذ منتصف القرن السابع عشر، واستمرت حتى مرحلة الانتداب الفرنسي على لبنان بعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) وانهيار الإمبراطورية العثمانية. وتمركزت هجرتهم إجمالاً في بلدان الأميركيتين: الشمالية والجنوبية. ولم يعد منهم إلى لبنان سوى عدد ضئيل يكاد لا يذكر، إذ اندمجت غالبيتهم الساحقة في بلدان «العالم الجديد»: الولايات المتحدة، كندا، المكسيك، البرازيل، الأرجنتين، فنزويلا، كولومبيا، الإكوادور، تشيلي، الباراغواي، الأوروغواي، غواتيمالا، بورتوريكو، الدومينيكان.. إلخ، مشكّلين «طبقات بشرية» يرث بعضها بعضاً.
وثمة فئة أخرى من لبنانيي الهجرة بلا عودة، توجهت إلى مناطق أخرى من هذا العالم.. إلى أستراليا مثلاً، وفي الفترة الزمنية نفسها التي غادر فيها نظراؤهم إلى الأميركيتين، فكان المدعو مسعود النشبي الفخري، أول مهاجر لبناني وطأت قدماه «أرض الكنغارو» بحسب توصيف أحد أحفاده. كان ذلك في العام 1854، وتبعه بعدها بسنوات قليلة يوسف النجار، وكرّت سبحة المهاجرين اللبنانيين بلا عودة إلى أستراليا، حتى جاوز تعدادهم اليوم نصف المليون مهاجر، بحسب إحصائية أسترالية صدرت في العام 2013.
وكانت دوافع الهجرات اللبنانية الأولى، كما كل ما تلاها من هجرات: اقتصادية وأمنية وسياسية، أي هرباً من الفقر والفتن والحروب الأهلية وغير الأهلية في البلاد، وكان يتقدم على كل هذي الدواعي استبداد الدولة العثمانية التي كانت تتحكم بلبنان وسائر بلاد الشام والعراق ومصر.
وثمة دافع آخر كان يحثّ اللبنانيين على الانخراط في الهجرات التي بلا عودة أيضاً، هو أخبار النجاحات الكبرى التي حققها مهاجرون لبنانيون «رواد» إلى الأميركيتين، فكان وقعها يصل كالسحر على الشباب اللبناني، من مختلف الطبقات، ويحفزهم بالتالي على الالتحاق بـ«العالم الجديد» أو «العالم الحر» وترجمة الأحلام والطموحات فيه، فضلاً عن الانتماء الكلي إليه.

هجرات أفريقيا والخليج العربي
وبخصوص الفئة الثانية من الهجرات اللبنانية، والتي صنّفناها بالهجرات المؤقتة، فهي التي عرفتها المستعمرات الإفريقية التي كان يديرها المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون، مثل السنغال وليبيريا وساحل العاج ونيجيريا وسيراليون وغانا وغيرها. وكان المستعمرون الأوروبيون أنفسهم يشجعون، في البداية، اللبنانيين، على الهجرة إلى البلدان الإفريقية المعنية، لحاجتهم إليهم في إدارة شؤون البلاد، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً.
وينضم إلى هذه الفئة من المهاجرين اللبنانيين المؤقتين، أولئك الذين غادروا لبنان في الستينيات من القرن الماضي، تزامناً مع بدايات نمو اقتصادات دول الخليج العربية بفعل الطفرة النفطية التي استدعت وجود خبرات لبنانية وعربية وعالمية، للإسهام في الإعمار والنهضة المديدة غير المسبوقة في دول مجلس التعاون الخليجي.
ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 استقطبت دول الخليج العربية، تبعاً لذلك، موجات هجرات لبنانية جديدة وصل تعدادها (إلى جانب من سبقهم من مهاجرين لبنانيين) إلى ما يزيد على الـ600 ألف لبناني.

شهادة وول سوينكا
وعلى العموم يتميز الانتشار اللبناني في العالم، ماضياً وحاضراً، بتلكم الديناميات والطاقات الهائلة التي يتمتع بها أفراده على المستويات الاقتصادية والعلمية والثقافية والإعلامية والسياسية. ولا غرو، فالاندماج حقق لهم فرصاً هائلة استطاعوا خلالها (خصوصاً في بلدان الاغتراب الأميركي الجنوبي) الوصول إلى أعلى المناصب: رؤساء دول ورؤساء حكومات وحكام ولايات ووزراء وقادة جيوش وأصحاب نفوذ في مختلف الدوائر الحكومية وغير الحكومية. وبعضهم، كما في أفريقيا، بدأ يشكل، منذ عقود، مجموعات ضغط في البلدان المضيفة، ويتدخل بنفوذه الاقتصادي والسياسي للإتيان برؤساء جمهوريات وإسقاط آخرين.
ونذكر من الأميركيين الجنوبيين من أصول لبنانية الذين تبوؤا مراكز رئاسية أولى: ميشال تامر، رئيساً للبرازيل. خوليو سيزار طربيه، رئيساً لكولومبيا. جاكوبو آزار، رئيساً لجمهورية الدومينيكان. وعرفت الإكوادور وحدها ثلاثة رؤساء جمهورية هم: خوليو تيودور سالم وعبدالله بوكرم وجميل معوض.
كما برز في صفوف الهجرات اللبنانية إلى مختلف الأصقاع علماء كبار ومخترعون نادرون وأطباء مجلون وأكاديميون متميزون.. علاوة على كتّاب وشعراء ونقاد وسينمائيين وموسيقيين ومغنين وتشكيليين ومسرحيين.. إلخ.
وفي ما يشبه المقارنة بين مهاجري الأمس واليوم من اللبنانيين، نقرأ في كتاب: «اللبنانيون في العالم: قرن من الهجرة» للكاتبين ألبرت حوراني ونديم شحاده (صدر عن «مركز الدراسات اللبنانية» في مدينة أوكسفورد البريطانية ودار أي. بي. تورس للنشر) أن معظم المهاجرين اللبنانيين القدامى إلى القارة الأميركية اندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة، ولاسيما في بلدان كالبرازيل والدومينيكان والمكسيك وكولومبيا، علاوة على الولايات المتحدة نفسها. بينما اللبنانيون الجدد الذين غادروا بعد الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 لم يتجهوا إلا إلى الولايات المتحدة فقط.
ونستنتج من الكتاب المذكور، كما من على ألسنة بعض المغتربين اللبنانيين العائدين من أفريقيا إلى بلدهم، أن الاندماج الحقيقي لم يتحقق مع المجتمعات المحلية الإفريقية (على رغم حصول كثير من المغتربين اللبنانيين على جنسيات تلك الدول) لأسباب عديدة، في طليعتها عدم الاستقرار السياسي والأمني في العديد من تلك الدول الإفريقية، فضلاً عن أن شرائح اقتصادية إفريقية كبرى ومؤثرة أصابها الضيق من الاحتكار اللبناني لبعض التجارات المركزية، فراحت تحرّض على اللبنانيين، رسمياً ومجتمعياً. لكن هذا كله لم يحلّ دون مواصلة المغتربين اللبنانيين دروب «مغامراتهم» التجارية والاقتصادية في أفريقيا ونيل احترام، بل إعجاب أهل البلاد الذين يعيشون بين ظهرانيها. ولعل أهم شهادة يمكن تقديمها في هذا المجال جاءت على لسان وول سوينكا الروائي النيجيري الكبير، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1986 والذي كان زار لبنان في العام 2015 للمشاركة في مؤتمر الاقتصاد الاغترابي اللبناني في أفريقيا، والذي رعته الدولة اللبنانية.. يقول سوينكا: «إن المغتربين اللبنانيين الأوائل الذين قدموا إلى أفريقيا أسهموا في تطوير الأعمال والتجارة، ولكنهم لم ينخرطوا فعلياً في المجتمعات الإفريقية. بالإضافة إلى ذلك، إن شعوب أفريقيا كانت تجهل الموقع الجغرافي للبنان، ولم تكن تسمع عنه إلا في الأناجيل المقدسة. لكن وبعدما تفاعل المغتربون اللبنانيون مع النيجيريين وسواهم من الشعوب الإفريقية، وبرهنوا عن جدارتهم في الاستثمار المفيد للتنمية الإفريقية وبناء قواعد الاقتصاد الإفريقي الناهض، تغيرت الصورة، وبات لبنان محل جدل إيجابي عام ومعرفة مقدرة ومحترمة من المجتمع النيجيري ومن سائر المجتمعات الإفريقية».
وأشار سوينكا في كلمته التقييمية لإيجابيات الدور الاغترابي اللبناني في أفريقيا إلى «أن لبنان اختير من حكومة لاغوس (العاصمة الاقتصادية لنيجيريا) ليكون من بين أربع ضيوف شرف من الأمم المتحدة التي ستشارك في الاحتفالية الخمسين لولادة لاغوس (جرى الاحتفال في العام 2017). وهذا خير دليل على أن لبنان يمثل موقعاً مهماً، ثقافياً واقتصادياً، في معظم بلدان القارة الإفريقية».

ذاكرات ممتدة
لم يقتصر نجاح المهاجرين اللبنانيين على ميادين الاقتصاد والتجارة والطب والسياسة والإعلام والصحافة، بل تعداه إلى الأدب والشعر والفن والثقافة بوجه عام، حتى بدأنا نتعرف إلى أجيال شعرية من أصول لبنانية أسهمت في معركة الحداثة الشعرية والروائية في بلدان مثل أميركا اللاتينية وحتى في الولايات المتحدة، ومنهم - مثالاً لا حصراً- الشاعر الإكوادوري خورخي إنريكي أدوم الذي درس في تشيلي وأصدر العديد من الدواوين الشعرية والروايات، وتعرف في سانتياغو إلى الشاعر الكبير بابلو نيرودا (نوبل للآداب 1971)، وعمل لديه سكرتيراً خاصاً. وكاد شاعرنا المذكور يفوز بجائزة سرفانتيس عن روايته «سماوات أخرى»، كما قال لي عندما التقيته في مدريد في العام 1990. وأخبرني أنه يعتز بكونه من أصول لبنانية، وأن والديه كانا يتحدثان العربية في المنزل، وبأنه يأسف لعدم تعلمه العربية، وبأنه زار لبنان في العام 1974 وكتب قصيدة في وطن الأجداد يقول فيها:
«اغمض عينيك.. افتحهما/ هل أنت في لبنان؟/ ما أحلى هذه الأرض/ ما أجمل هذه السماء/ التي تنتمي إليها أيها الشاعر/ ابتسم لها/ ولا تحترف الشكوى/ فأنت أولى بالفرح الآن/ لأنك عدت اليها/ عدت إلى الأرزة الوارفة العظيمة/ التي لا تستطيع الدنيا كلها أن تتجاهلها/ فهي التي تهمي على الدنيا/ وعلى سماوات الرب/ البعيدة منها والقريبة».
وهناك شاعر كولومبي كبير من أصل لبناني يدعى جيوفاني كسيب. كان أجداده قد وصلوا إلى كولومبيا في أواخر القرن التاسع عشر. نشر أكثر من 10 دواوين شعرية، يجمع في مناخات قصائده عموماً بعض أجواء التراثين العربي والبوليفاري. كما أن الأساطير الشرقية القديمة، الفينيقية منها والهلّلينية تمخر رأسه. وكان على المقلب الآخر، يطرب لقراءة كتاب «ألف ليلة وليلة» ويجده منجماً شعرياً حافلاً بالصور العجائبية، وليس منجماً حكائياً جاذباً ومشوقاً فقط. وكان أيضاً من المدمنين على قراءة «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي. يرى أن مضمونه لا يبلى، بل يتجدد على مرّ الأيام والحقب. وأكثر من مرة دعا المثقفين الكولومبيين إلى قراءته والاستفادة من حيوية مضامينه الحبيّة والعشقية.
من جانب آخر، لا تغيب عن بال الشاعر جيوفاني كسيب صورة أرض آبائه وأجداده «أرض اللبن والعسل والعذارى الوسيمات»، فلبنان مسكون على الدوام في قلبه وذاكرته:
«مت يا سراب/ مت يا خيال/ مت يا وهم/ فلبنان ذَهَبُ الحقيقة/ باقِ في ذاكرتي إلى الأبد/ وأنا لا أغنى إلّا بعشقه/ وعشق نوره البعيد والقريب كل يوم/ تُغلب الدنيا كلها يا سادة/ ولا يُغلب حبي للبنان».
وحسناً فعل الشاعر والناقد اللبناني المقيم حالياً في المكسيك قيصر عفيف (يدير مجلة «الحركة الشعرية» التي تعنى بالشعر الحديث في المهجر والعالم العربي)، عندما ترجم ديوان «قصائد مختارة» للشاعر المكسيكي من أصل لبناني خايمي سابينس، وصدرت الترجمة في بيروت بطبعتين عن دار نلسون للنشر.
يُطلق المترجم قيصر عفيف على الشاعر خايمي سابينس لقب «شاعر الحياة». أما لماذا؟ فلأنه غنّى جوانب الحياة المختلفة. وقف أمام المجتمع، رأى الناس تتراكض وراء لقمة العيش، وراء الثروة، تذهب إلى الحدائق العامة، وإلى دور السينما، ورأى العاشقين في الشوارع يتعابطون، والأطفال يلعبون، فكتب عن كل ذلك بحرارة.
من شعر خايمي سابينس هذه القصيدة بعنوان: «أردت أن أجمع ثروة»:
«أردت أن أجمع ثروة/ لأعيش من دون أن أعمل/ لأتمتع بأشياء هذا العالم/ ولكن كان مكتوباً لي/ أن آكل حجارتي/ بعرق قلبي».
وهذه القصيدة بعنوان:«عن الموت»:
«ادفنه/ فثمة رجال كثيرون هادئون/ يهتمون به تحت الأرض/ لا تتركه هنا/ ادفنه».
ومن تشيلي، هناك الشاعر نعيم نوميث، وهو من والدين لبنانيين في المهجر. يغلب الحوار الفلسفي على شعره، ويوجعه أحياناً أنه من بلاد بعيدة ولا يراها يومياً، لكن ما يثلج صدره أن أمه أوصته:
«لا تنس لبنان ولا تنس تشيلي/ كلاهما هواء واحد تتنفسه/ وجبال واحدة تحميك من الأعداء/ كلاهما بحر ينقذ روحك من الاندثار/ من النار/ التي قد تدهمك أكثر من اللزوم».
ومن شعره بعد نقرأ:
«من هذا الأنا؟/ هو أنت أم نحن؟/ هل أنا أنت أم هي أنا/ لم يكن ذلك إلا حلماً/ تحرّر في صباح حزينٍ وعقيم».
وثمة شاعر دومينيكاني من أصول لبنانية اسمه طوني رفول تيجادا. يرى أن الشعر هو متنفسه وسلاحه الوحيد الذي يجبه به القدر. وليس شرطاً أن يكون القدر عاملاً مساعداً على الحزن فقط، بل هو في أحايين كثيرة محرّض على الفرح والنشوة وجنة الورد التي لا يذبل ألقها، ولا يتبخّر عطرها.
هو يحبّ المهاجرين وأبناء المهاجرين مثله، الذين وفدوا من أماكن بعيدة.. من لبنان وسوريا وفلسطين، واندمجوا أيضاً مع مهاجرين وفدوا من الصين والهند وأفريقيا وبعض جزر البحر الكاريبي مثل: سانت كيتس، أنتيغوا، تورتولا، سانت كروا، مارتينيك وغوادلوب التي عرفت ولادة الشاعر الكبير سان جون بيرس.. وجمعتهم جمهورية واحدة اسمها جمهورية الدومينيكان اليوم، وواسطة العقد فيها عاصمتها الجميلة سانتو دومينغو:
«سانتو دومنغو، ما أجملك من عاصمة/ يا أم المهاجرين/ يا دوحة فقراء الأرض/ الذين شربوا كؤوس العلقم/ وحولوها إلى عسل أزلي/ يا مُطعِمة البيزكوشو (كعكة دومينيكانية شهيرة)/ يا ساقية كؤوس الخوغوس (عصير فاكهة محلية)/ الذي يُشفي من كل الأمراض المستعصية/ ويجعلنا نغذّ السير صوب الحياة الأبدية/ التي لا تعرف الهلاك والموت/ سانتو دومينغو يا عروسة المدائن/ من سباق إلى سباق أعند/ أنت دائماً تنطلقين/ كوني معنا/ كما عادتك ليل نهار/ كوني معنا/ فلقد قررنا أن نرقص الليلة/ وكل ليلة/ رقصة الميرينغي/ عربون تحايا مستمرة/ هكذا بلا إملال إليك/ سانتو دومنغو، ما أجملك من عاصمة».

سرديات لاتينية
ترك المهاجرون اللبنانيون تأثيرات، بل بصمات طاغية في مجتمعات البلدان التي اندمجوا فيها، إن في طرائق عيشهم ومأكلهم ومشربهم، أو في طقوس عاداتهم وتقاليدهم وحتى معتقداتهم.
على أن أهم وأخطر ما أثر فيه المغتربون اللبنانيون في المجتمعات المضيفة لهم، هو تحولهم إلى مادة أدبية وحوارية وثقافية دسمة التناول، ولاسيما لدى المخيال السردي لكبار من كتاب أميركا اللاتينية أمثال الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (نوبل للآداب 1982) والبرازيلي جورجي آمادو، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. وهذا الأخير الذي يسمونه «رئة الأدب في أميركا اللاتينية» يتحدث عن الطائفة الدرزية اللبنانية الكريمة في واحدة من أجمل القصص التي كتبها عام 1941 وتظهر في كتاب «ست مشكلات تواجه السيد إيسيدرو بارودي» تحت عنوان «اثنتا عشرة صورة للعالم». والقصة تحكي عن أكيليس موليناري، رجل يعتقد أنه قتل الدكتور ابن خلدون زعيم الطائفة الدرزية في بلدة مازيني الأرجنتينية، وسط أدلة على بداية وجّهته إلى موليناري. وزار هذا ليستوضح السر، المخبر السري إيسيدرو بارودي (المحقق البوليسي الذي يحل القضايا من داخل زنزانة السجن الذي يقضي فيه حكماً طويلاً)، والذي يكتشف عبر نهج ورق الكوتشينة، القاتل عزالدين، أمين صندوق الجالية، والذي بعد ارتكاب جريمته أشعل النار على أشدها في المكان الذي يقيمون فيه الاجتماعات حتى يمحو كل الأدلة. خلف هذه الدراما نجد الملامح التي يقدمها بورخيس عن الجالية اللبنانية الدرزية، مبعثرة ومتشظية.
وفي الخلاصة، يحترم بورخيس العقيدة الدينية لطائفة الموحدين الدروز والتي لديها جالية قديمة في أميركا اللاتينية وخصوصاً في فنزويلا والبرازيل وكولومبيا والأرجنتين. كما أنه يشيد بهم لناحية انسجامهم مع المجتمعات التي توطّنوا فيها، وإسهامهم مثلاً، في النهضة الاقتصادية للأرجنتين في مرحلة الأربعينيات من القرن العشرين.
في كتابه «صورة العربي في سرديات أميركا اللاتينية» (إصدار مشروع «كلمة» للترجمة – أبوظبي - 2015) يتحدث الناقد والأكاديمي الكوبي المختص بالشؤون العربية ريجوبيرتو أرنانديث باريديس عن الوافدين اللبنانيين والعرب في روايات جابرييل غارسيا ماركيز، فيقول من ضمن ما يقول: يدخل ماركيز في روايته «ليس للكولونيل من يكاتبه» الشخصية العربية للمرة الأولى، وهو السوري موسى (كان المهاجر اللبناني يسمى بالسوري أو التركي أيام الإمبراطورية العثمانية) صاحب أحد متاجر القرية التي تنتمي للوافدين العرب والذين تطلق عليهم الرواية تسمية «السوريين» أو«الأتراك». وإضافة إلى الإشارات الخاصة بالشخصية المذكورة وعلاقته بالكولونيل، بطل الرواية الرئيس؛ هناك صور أخرى للسوريين. لكن كمجموعة تجارية، فكلما أشار إليهم، ربطهم دائماً بمتاجرهم؛ فمتجر موسى نفسه سر حياة القرية والمسرح الذي تدور فيه حوارات الشخصية الرئيسة والمهاجر العربي. هكذا يمكن أن نقرأ في الصفحات الأولى من الرواية، كيف يلاحظ الكولونيل حركة المسافرين وسكان القرية من متجر السوري موسى.
وتلاحظ الكاتبة غلوريا إسكوبار سيرانو في رواية «ليس للكولونيل من يكاتبه»، كيف أن هؤلاء التجار أصحاب المحلات والمتاجر يشكلون طبقة وسطى مهمة، حتى أن السكان الأصليين يشيرون إليهم بنبرة ثقة، ما يرسخ فكرة الانصهار التام والمقبول للجاليات اللبنانية والعربية في أميركا اللبنانية.
ونجد في رواية «مائة عام من العزلة» (الرواية الأشهر لماركيز) وعالم ماكوندو المدهش الموصوف فيها إشارات متعددة إلى الوافدين الشرقيين مصنفين كعرب ينتعلون النعال ويلبسون الخواتم، وسيستمرون بهذه الخصائص الأصلية حتى بعد انقراض ماكوندو؛ فالعرب في القرية الأسطورية الكونية للروائي الكولومبي يمثلون جماعة مغلقة على نفسها تعمل في التجارة؛ وكذلك تتعامل مع أبناء المجتمع معاملات اقتصادية وتربطهم بهم صداقات، لكنهم لا يخلطون الأول بالثاني وفي نهاية زمن مقاطعة ماركيز، يطفو الجيل الثالث من العرب بشجاعة فوق الفيضان ويبدأ تحدي الزمن لديهم.

العرب في روايات جورجي أمادو
نعرف من كتاب «صورة العربي في سرديات أميركا اللاتينية» أن الأدب البرازيلي يشكل واحداً من النماذج الأكثر دلالة للحضور العربي في السرد الأميركي اللاتيني، وأحد أبرز الساردين في هذا، هو الروائي الكبير جورجي آمادو المولود سنة 1912 في ولاية باهيا البرازيلية. لقد تناول الروائي في عملين، منح فيهما البطولة لصورة المهاجر العربي في البلد الجنوب أميركي الضخم: «غابرييلا والمسمار والقرفة» و«عن كيف اكتشف العرب أميركا؟»، رغم وجود أعمال سردية أخرى من تأليفه، أدخل فيها شخصيات عربية استلهمها من الواقع، متعدد الإثنيات ببلد اللغة البرتغالية الشاسع.
ويتحدث آمادو في روايته «غابرييلا والمسمار والقرفة» عن بطله نسيب سعد، هذا اللبناني أو العربي الناجح في التجارة، يشرع في الشغف بالفتاة غابرييلا، ابنة هذه الأرض البرازيلية، فتتحول من طباخته إلى زوجته. ومن خلال هذا العشق الذي يصبغ الرواية كلما تقدمت بها أحداثها، تنعكس التناقضات السريعة بين رجل أعمال مثل نسيب وامرأة عاشقة للحرية وبعيدة عن التقاليد الاجتماعية مثل غابرييلا. غير أن عشق العربي المحافظ الوقور، يستسلم في النهاية أمام شغف غابرييلا الجامح بلا قيود، ما يمكن ملاحظته في صفحات الرواية الأخيرة، حيث ترسم على مدار السرد، صورة عربي مندمج في ثقافة شعب باهيا البرازيلية.
في حوار شخصي لي، مع الروائي جورجي أمادو، كنت أجريته معه في باريس في العام 1977، ونشرته في مجلة «الكفاح العربي» اللبنانية، قال لي أمادو، بعدما عرفني أنني من لبنان: «لكم، أنتم اللبنانيون، في البرازيل رصيد لا يتحطم في ذاكرة أبناء وطني على امتداد البلاد، طولاً وعرضاً. كيف لا وقد جاوز تعداد البرازيليين من أصل لبناني العشرة مليون نسمة؟. أنتم أخوتي أبناء لبنان والمتحدرون منه تشكلون عناصر فاعلة ومتفاعلة في الحياة البرازيلية منذ قرنين من الزمن، وحتى اليوم».
وعندما سألته عن معنى اختياره شخصية لبنانية مهاجرة إلى البرازيل بطلاً في أكثر من رواية له، أجابني: «ليس من التفصيل في شيء القول إن البرازيليين من أصل لبناني، يشكلون، في الماضي كما في الحاضر، جزءاً لا يتجزأ من دينامية الذاكرة الجمعية والتاريخية لعموم البرازيليين. بمعنى آخر، لقد تحوّل هؤلاء المهاجرون اللبنانيون إلى ضمير عام، فرض نفسه على مسار شخصيتنا الوطنية المركّبة وذات التعددية الثقافية، التي هي إحدى أهم المميزات الحيوية التي تؤلفها، فكيف لي، والأمر كذلك، ألا أستظهر في رواياتي وقصصي مثل هذه الشخصية أو الشخصيات اللبنانية – البرازيلية المشتركة؟».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©