الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

انعكاس ..

انعكاس ..
15 يوليو 2019 11:34

‎القصص التي تدور حول صمتها الرهباني لا تنتهي. امرأة تجالس الانتظار، تقضم الوقت في موقف للحافلات على مقعد من الاحتمالات المؤجلة. أنوثتها الناضجة لا تُخفى على الناظر، إلا أن قلبها جفّ كثمرة منسية، وهنت شغافه وفترت خفقاته، وما نهداها الناهضان وتقاسيم جسمها إلا جبالاً من الحزن.
‎تُركت عالقة بين خفايا المجهول ودوائر التوهان، تتلو في خشوع صلوات وفائها، تراتيل ندائها، وتلتهم عيناها الطريق بنهم بحثاً عن وعد قادم. لا شيء بات يدهشها الآن، لا شيء يثير غريزتها الجسدية أو يحرك كواكب في مداراتها الحسية، بالنسبة لها كل ما يحدث هو تكرار لمشاهد روتينية تحاول جاهدة مسايرتها وهضمها. تفرش بساط الأمل على أرض وهم رخوة تسعى أن لا تفقد تماسكها كلية. تجتث ضوضاء تشتتها باستعارة هدوء مؤقت تستشفه مما حولها.
‎امتزج وجودها مع تفاصيل المكان كلون أساسي من ألوان لوحة اعتادها المارة. تتوقف الحافلات، يصعد الركاب، ينزل الركاب دون اكتراث بها، ولا للشال الذي تخيطه بخيوط صبرها أو لحقيبتها الملأى بأحلامها الشهية. محزن بالفعل أن لا يلتفت أحد لشهقة أمنياتها أو يترجّل لحظات عند محطات انتظارها ليسألها عمّا بها؟
‎هي المنسية وسط الزحام... تَرى ولا تُرى.
‎لم يمنحها ذلك الرجل فصل الختام حتى تقلب آخر صفحة من صفحاته، فأين من عينيها تلك الأيام المسقيّة من نهر هواه والمضمّخة بطِيب أنسه ورياحين جنانه. لقد وعدها وذاب في المجهول. كلما توقفت حافلة رق قلبها وارتجف، تُعدّل من هيئتها وتقف بحركات لا إرادية أصبحت جزءاً من إدمانها اليومي.
‎ها هي أيامها تنمو سراعاً دون توقف، يولد اليوم فتشرب الشمس جزءاً من مائها، يكبر اليوم فتأكل العصافير خبزاً من فؤادها، ويرحل اليوم مُحمّلاً بتنهدات تيهها ودورانها في حلقات مفرغة. أضحت كمسافرة ضلت سبيلها لتجد نفسه في صحراء عطشة، قاحلة إلا من رياح عاتية تنثر أحلامها. ربطت حبل آمالها بفردوس مفقود واضمحلت نواة شغفها شيئاً فشيئاً، فما أقسى أن يرجو المرء حُباً لن يأتي أو ربما.... ذهب مع الريح.
‎دارت عليها رحى السنين وهي في ذات مقعدها، طاحنة أسئلتها اللاهثة عنه حتى فقدت مذاق الأجوبة. تغير الكثير حولها وتجدد دون أن تنتبه... تفاصيل المارة، موديل الحافلات، ملصقات دعائية تحمل الآن تاريخاً جديداً لا تعرفه. كل شيء تبدّل، فكأنها سافرت عبر آلة الزمن وبدت لها الأحداث كالحُمّى التي تذهب وتعود فجأة دون موعد.
‎ترهّل اطمئنانها واهتز سكونها، فذلك الحراك السريع لا يمكن تجاهله، إذ يُنبئ عن أمر ما. تحركت أخيراً ببطء، فتحت حقيبتها بارتعاشة وجلة لتعيد قراءة تاريخ آخر رسالة منه، لكن سرعان ما تناثرت بين يديها قصاصات بالية ما لبثت هي الأخرى أن تحوّلت لطيف خيال زارها ومضى.
‎لقد قُضي الأمر الذي تستفتي نفسها فيه.
‎كل حافلة مرت بقربها كانت تبتعد بأحلامها المخدوعة إلى غير وجهتها. صادفت فجأة زجاج نافذة لحافلة توقفت أمامها، داهمها انعكاس لصورة امرأة بالكاد تعرفها، امرأة غزا وجهها رهق معجون بحزن سحيق وتجاعيد سلّط الزمن جيوشه على جسدها فصالوا فيه بالسيوف والرماح، لكأنما سجّل التاريخ إحدى معاركه المهزومة هناك.
‎إنسانة ذات سنين عجاف، اشتعل رأسها شيباً، امتُص عصير شبابها وذبلت فاكهة حديقتها دون أن تُقطف في أوان لذّتها. باغتها حينئذ وعلى حين غرة زلزال حقيقة موجعة وإحساس شتوي قارس البرودة. إنها هي... منهكة الروح، ضامرة الجسد، لقد كبرت كثيراً لتعي بأنها ضحية انتظار تعدى الستين من عمرها. عاشت أكذوبة لوعد أخرق، أحرق شجيرات شبابها عن بكرة أبيها، ذلك الوعد المُجحف الذي لم يتحقق... ولن يتحقق.
‎لقد تجرّعت كأس الخديعة في منفاها الاختياري، أعياها الانتظار، فات الأوان على سُقيا أحلامها وهاجمتها ذئاب اليأس مفترسة كل أمل فيها. صدمة تركت بعضها يموج في بعض وتيبّس كل عود أخضر في ذاكرتها. نهضت مشوشة عن مقعدها المُرهَق، اقتلعت جذورها منه بتعب ينزف ألماً، وصعدت لتستقل حافلتها الأخيرة تحمل ما تبقى من عمرها إلى محطة تستريح فيها من ذلك العناء. استوقفتها يد ما امتدت لها من الوراء، استشعرت تلك اللمسة التي تفتقدها، أحست بوخزة في قلبها، لكن ذاكرتها المُخدّشة بالانتظارات لم تسعفها لتذكر المزيد. كان هو... عاد بعد أن أكلت السنين الكثير من مِنسأة عمرهما. تألم وبكى بحرقة قلب مكلوم لتسببه فيما حدث لها. لكن، حتى وإن لم تعرفه فهو يعرف بأن السعادة الحقيقية تكمن في مرافقتها، في نظرته اليومية لهذه المرأة الموغلة في الوفاء. أمسك بيدها الناحلة بحنوٍ ومشى معها نحو ذكريات بدأت تستعيد نبضها بدفء.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©