السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

صحوةُ المَوت

صحوةُ المَوت
14 أكتوبر 2019 03:30

القريةُ بعيدة، الجبن المخثر في جنباتِ الكَهفِ الدهليزي، ضوءُ الشمعدان في الكنيسةِ المهجورة، الطفلُ الذي مزقتهُ الأسلاك، رمتهُ خلفَ الأسوارِ وحين رأى شمس الوطن الآخر، لملَمَ جراحهُ.
قال لي مرةً وهو يطِلُّ من النافدة المشرعة على البحر:
كنت أحسبُ جرحي أعمقُ وأقسى من جرحِ هذا الوطن.
في الأيامِ اختلطت لديه الأشياء، ولم يعد للزمن طولهُ الاعتيادي بلْ أصبحَ زمناً معجوناً بالآلامِ والتذكارات. لم يعد البارحة بعدها في الزمنِ وعمقها المُتلاشي. كان «أنجلو» يُنادي أمه، أسماء كثيرة كان يُرددها. قال لي ذات مرة:
تعال. نَمْ عندي الليلة، سيأتي بعض الزُّوار، ستأتي خالتي التي ماتَ زوجها في الحرب.
نِمْتُ حتى الصباح، كنتُ أعرف أنَّهُ كان يزور الوطن في مَنفاه.
في ليلةٍ عاصفة، صرخَ في عُمقِ الظلام. الذئابُ تعوي في الخارج، أقفل الباب، أشعل النار، وضَع البندقية على مقربةٍ من ملمسِ يديه، فالذئابُ متواجدةٌ في كلِّ مكان.
«أنجلو» مات لأنَّه لمْ يعرف كيف يُداوي جرحه، أنجلو قتلتهُ الحرب، ظلَّ الوطن يحفرُ فيه كلّ أشكالِ التلاشي حتى تهاوى كحائطٍ قديم.
تركَ الوطن، ووجد وطناً عارياً في أعينِ الأطفال. ما تبقى من كلماتِهِ، تركتُ الموتَ هناك ووجدتهُ هنا، حكايةُ وطن مات ووطنٍ يحتضر، أسمعُ طلقاتِ الرصاص، أركبُ السيارة، أتخلَّى عنها، المواجهات بين الأطفال والكبار. عرفتُ آنذاك أنَّ العالم أصابتهُ اللَّعنة.
ذات مساءٍ خريفي، كانت الطيور تعودُ إلى أعشاشها المَكشوفة، والعلامات الملفوفات في الحايك يسرعن من الخطى إلى منازلهن، كان الصخبُ يتلاشى شيئاً فشيئاً، رائحةُ البحر وصوتُ الأمواج وهي تصطدمُ بالواجهة الأمامية للميناءِ الصغير. أنجلو كان يرى كلَّ هذا وفي عينيه غيمةٌ من الحزنِ، كادت تُمطِرُ أو بالكادِ أقلقت صفاءَ عينيه، أشعلَ السيجارة وحاولَ أنْ يداري حزنهُ، التفتَ إليَّ مدركاً تطلعي إليه وتفرُّساتي التي كادت أنْ تغوصَ داخله، كان يريدُ أنْ يوفر عليَّ كل هذا العناءِ. ما بقي من الوطنِ سوى ذكرياتٍ شاحبة، ذكرياتُ طفل، أحياناً كان يزورني ويضعُ بين يدي باقةَ وردٍ بريّ ويمضي، أعرفُ أنَّ من لا وطنَ له لا فرحَ له. كلَّما تذكرتُ تلك الليالي الطفولية في القرية، أحسستُ بالدفءِ يسري في جسدي، وبالامتلاءِ يغمرني، فأحِسُّ aبأنَّ لي جذوراً ستستطيلُ لكي تشربَ من نبعِ الوطن، والآن الزمن الذي مضى والسنون الطويلة أبقيا داخلي شيئاً كالموتِ ينشرُ أطيافهُ على حبالِ العُزلة.
من حُجرته الصغيرة كنا نسمعُ هديرَ البحر، رائحتهُ تملأ كلَّ جنباتِ الحجرة، الصورة المعلَّقة لـ «فيرمر».
كل ما استطاعَ أنْ يفعله «فيرمر» هو تخليدُ الجمال، أترى الصورة إنَّها لا تحملُ جمالاً خارقاً، لكن روعتها تكمنُ في اليدِ التي استطاعت أنْ تجعل مما هو عادي شكلاً للخلود. إنَّ الرسم كالكتابة، تجسيدٌ لما هو مرئيٌّ بحيثُ يصبحُ شكلاً مزدوجاً، شكلاً جديداً للابتكار والخلقِ، إنَّه الإبداع في أبهى تجلياته.
أنجلو لم يكتب، لم يدوِّن مذكراتهِ، كان يحلمُ بشيءٍ واحد، أن يعودَ إلى الوطن، أنْ تتشابكَ يداهُ بأغصانِ شجرِ الدُفلى، الذي كان يحيطُ بمدخلِ البيت الذي كان يسكنهُ طفلاً في القرية.
مات أنجلو هنا بعيداً، منفياً، ما تبقى غير غيمةٍ من سفر، ووِصاية قنديلٍ يحتضر.
كان يخافُ أنْ يموتَ وحيداً، فقيراً، مُعدماً، وكأنَّ هذه الأشياء أبت إلاَّ أنْ تقع. أنجلو نام هادئاً تلك الليلة، وفي الصباح سألني عن اليوم، قلتُ له إنَّه يوم الأحد، ابتسم، ربَّما تراقصت في عينيه صورة الكنيسةِ المهجورة والناقوس المتعب، الذي كانت تتردد دقاتهُ في فضاءِ القرية، طلبَ مني أنْ أضع خلفهُ وسادة زائدة، كي يرفعَ ظهرهُ بعض الشيء، حسِبتُ أنَّ حالتهُ قد تحسَّنت وأنَّه قد ابتعد عن مشارفِ الموت.
قمتُ كي أعدَّ له القهوة في فنجانٍ كبير، حين عدتُ وجدتهُ يبكي كطفل، وضعتُ الفنجان جانباً، وجلستُ أربتُ على كتفهِ لعله يهدأُ وتزولُ عنه غشاوةُ الحزنِ تلك.
أحسستُ للحظات وهو يلملمُ حزنهُ ويمسحُ دموعه بعمقِ المأساة، أخذ الفنجان ورشفَ جرعةً واحدة، وما كاد يضعُ الفنجان حتى ارتجفت يداهُ، التفت بعنفٍ نحو النافدة التي تطلُّ على البحر، تساءلتُ من أين أتتهُ تلك القوة في الالتفات وهو الذي وَهَنَ جسدهُ إلى أبعدِ الحدود، اقتربتُ منه، ناديتُ، أنجلو، أنجلو... لم تكن تلك إلاَّ صحوةَ الموتِ، بكى رحيلهُ قبل الأوانِ، لم يُشيَّع جسدهُ إلاَّ القِلة من المهمشين والسكارى الذين كان يبادلهم المجاملات حين يُصادفهم في الحانةِ. حين عدتُ إلى الفندق وجدتُ أنَّ كل الأثاث قد عبثت فيه أياد خفية، لم يَبقَ شيء إلاَّ تلك الصورة المعلَّقة على الجدار، مازالت تنظرُ إلينا بتلك النظرة، سألتُ المسؤول في الفندق فأخبرني أنَّ أُناساً قد أتوا وحملوا أغراضهُ وقالوا له أنْ ينسى كلَّ شيء. نزلتُ الدرج وحدي، سألتُ نفسي: أحقّاً أنجلو لم يَكتُب مُذكراتِهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©