الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«جوكر».. جنون مستتر وعنف فضّاح

«جوكر».. جنون مستتر وعنف فضّاح
17 أكتوبر 2019 00:03

حياة تنهش ذاتها في غرفة حواسّ معتمة، حيث العزلة الموحشة هي اللحم العاري والفاسد الذي يتغذى عليه الإنسان المهدور، الذي لا شيء لديه كي يخسره، إنه الكائن المنتهك حتى النخاع، ولا سبيل أمامه سوى الانصياع لنداء المواجهة الدموية، والانخراط الأعمى في حفلة التمزيق والفتك والترويع.

مع هكذا حياة، وفي هذا الفضاء القلق إلى ما لا نهاية، ووسط بناءات مشهدية متصاعدة من القاع إلى الذروة، ومن الاستلاب إلى التمرّد، يؤسس المخرج تود فيليبس في فيلمه الجديد والمثير للجدل «جوكر» لمناخات ضارية، يسودها العنف كحالة احتجاجية مدويّة، بعد تمهيد درامي مفعم بالتجاذبات والانكسارات التي نراها مجسّدة بقوة في الذات المتأزمة لبطل الفيلم آرثر فليك (خواكين فينيكس) جوكر البؤس الإنساني بامتياز لتنتشر تبعات هذه الأزمة ونتائجها كالعدوى نحو الذوات الأخرى التي تشكل رصيداً من القابلية الاجتماعية المندفعة نحو الفوضى والجريمة والتخريب، انطلاقاً من التحولات المأساوية والخطيرة للشخصية الرئيسة في الفيلم.

سمت مخادع
ما يطرحه فيلم «جوكر» ليس مجرد تحليل لظاهرة العنف المتصل بالجنون الفردي في الحيّز الانفعالي المشوّش للبطل، الذي تمتزج فيه الهستيريا بالبارانويا، وليس مجرد تفكيك لمسببات الهوس الجماعي في مدينة (غوثام) الخيالية، لأنه وكما يبدو من القراءة المتأنية لخطوط الفيلم السردية المنطلقة بداية، والعائدة نهاية إلى الطبيعة المخاتلة، وإلى السمت المخادع لشخصية المهرّج المزدوجة، فإن المخرج يعبّر هنا عن نقد مواز في شراسته لدوافع العنف المبطنة والتي تتشكل ملامحها بوتيرة متمهّلة في الكادرات البصرية المتتابعة داخل زمن الفيلم، هذه الدوافع المتسربة من منابع نفسية عميقة وملوّثة، والتي تنمو تدريجياً دون أن نتوقع نتائجها الكارثية لاحقاً، إنه العنف المستتر والوثيق الصلة بحساسية مفرطة تجاه لحظة الانكسار القصوى، حيث لا جدوى من الأمل، ولا خلاص إلا في الانتقام، والتلذّذ بهذا الانتقام وسط غابة من الرؤى الجامحة والرافضة للقيم والسلوكيات والأخلاق التي نراها هنا متراجعة ومنسحقة لدرجة الخسف والمحو المطلق.
وانطلاقاً من العنوان «جوكر» الذي ينزع «أل» التعريف عن الشخصية المحورية، نكتشف ماهية أن يكون الشخص نكرة، وهامشياً إلى هذا الحد، فكل علاقات (آرثر فليك) مع المحيطين به، هي علاقات قائمة على الوهم والشكّ والارتياب، بدءاً من علاقته المشوّهة مع أمه والتي سببت له صدمة وجودية هائلة، بعد أن جعلته مرتبطاً بها من خلال أكاذيب متراكمة، وجد عند إماطتها أنه كائن بلا هوية ولا نسب، وأنه مجرد كيان ضالّ ومُنتحل وهلامي، إضافة إلى أن علاقته بجارته التي اعتقد أنها أحبته، كانت علاقة مبنية على الاستيهام المجسّد الذي هو نتاج لحالة الذهان التي يعاني منها، والتي تظهر تداعياتها الأخرى في الوسواس القهري المتمثّل في الضحك الهستيري المستمرّ، وفي أماكن ومواقف تسبب له حرجاً كبيراً خصوصاً من قبل الذين لا يعرفون طبيعة مرضه النفسي، ولا الدوافع والمسببات الكامنة وراء هذا السلوك المستهجن، والذي لا يستطيع التحكم به.

تشريح باثولجي
يقدم المخرج في الساعة الأولى من زمن الفيلم ما يشبه التشريح الباثولجي لمعاناة آرثر، مستخدماً الأسلوب التشخيصي في التصوير، وهو أسلوب يلازم الممثل الرئيس ويصبح لصيقاً بتفاصيل حياته اليومية المختلفة عن السياق الطبيعي والعادي، وكذلك ردود فعله الغريبة والانهزامية تجاه التحديات والصعوبات التي تواجهه، فمنذ هجوم الأطفال المشاغبين على آرثر المتنكر في ثوب المهرج، وركله وإيذائه بشكل مفرط في الشارع، تبدو العتبة المشهدية الأولى في الفيلم وكأنها مفتتح مثالي لشرارة العنف والفوضى المتوقع حدوثها في مدن الشؤم المستقبلية بأميركا، وهو الشؤم ذاته الذي سيطارد الجوكر، أينما حلّ وارتحل، في بؤرة الكاميرا أو على هامشها، رغم تخلصه من صورته الكلاسيكية باعتباره ممثلاً للشر المحضّ في مجلات الكوميكس والمرتبطة أساساً بشخصية الرجل الوطواط (باتمان)، يتحرر الجوكر في هذه النسخة الفلمية الجديدة من مرجعية الكتب الهزلية التقليدية، ومن عبء مواجهة عدوه الأزلي، ولكنه لن يستطيع التحرر من عبء ألمه الشخصي، ومن هجمة شياطينه الذهنية، ومن استحواذ الذكريات السوداء على نظرته للحياة، وللآخرين الذين تسببوا في مأساته، حيث تتأكد ملامح هذه المأساة الذاتية للجوكر، منذ اللحظة التي يتسلم فيها المسدس من صديقه في العمل كي يحمي نفسه من زعران الشوارع، فتسقط مقاومة الجوكر أمام إغراء العنف كما تتساقط أحجار الدومينو، واحدة تلو الآخر، وسط انهيار ملحوظ للوعي الداخلي المرتبط بالضمير والعاطفة والندم، إنه الجنون الحيواني الطليق، حيث يسترسل الجوكر في انتقامه الممتد من الأفراد إلى المجتمع ككل بما يتضمنه من قوانين وتشريعات مجحفة تجاه الفقراء والمشردين والمعدمين، وهي التشريعات الظالمة التي باتت تمسه شخصياً بعد قطع الأدوية النفسية عنه من مؤسسة العلاج المجاني، بسبب اتباع سياسة التقشف الشاملة في المدينة، ما يزيد من معاناته وإقحامه في دوامة من الهلاوس والاضطرابات العقلية، يقتل آرثر رئيسه في العمل بعد أن يفصله بذريعة واهية وبسبب خطأ غير مقصود، ويقتل ثلاثة شبان من الطبقة البورجوازية بعد اعتدائهم عليه في القطار، ويقتل والدته بعد اكتشاف كذبها عليه طول الفترة التي عاشت فيها معه، ويقتل صديقه في العمل الذي أهداه المسدس وتسبب في تعطيل أي رجاء محتمل لاندماجه مع الناس ومع إيقاع حياته السابقة، ويقتل أخيراً وعلى الهواء مباشرة، مقدم أشهر برنامج كوميدي في المدينة يقوم بدوره الممثل روبرت دي نيرو بسبب استهزاء هذا الأخير به ونعته بالكوميديان الفاشل.
يخرج آرثر من سلسلة القتل المروعة هذه وكأنه الضحية المترنحة بين نشوة الانتصار وصدمة الانكسار، وتتجلى رقصة الجنون في إيقاعات الجوكر الجسدية وسط عالم مرعب تحكمه الأشباح، وكائنات الليل الغامضة، والعواء الداخلي الذي نسمعه وهو يصدّر خطابه التدميري من المنابع الداكنة للذات المنهزمة وغير القادرة على الانغماس في العالم إلا من خلال التوجس، والتفسير المنحرف، وانتظار اللحظة السانحة لتمزيق كل رابط وثيق وكل علاقة سوية مع المجتمع.

الواقع والافتراض
في النصف الثاني والأخير من زمن الفيلم، ينقلنا المخرج من التشخيص في بعده الواقعي والتمهيدي، إلى التجريد في بعده الافتراضي والتنبؤي، حيث تتكشف التبعات السياسية المقلقة التي يطرحها الفيلم ويحذّر منها في ظلّ تباعد المسافة بين الطبقة العليا وبين الطبقة الدنيا، ما ينذر بانهيار الطبقة الوسطى القادرة على خلق التوازن والتماسك في النسيج الاجتماعي للدول، ثمة إيحاء هنا بإمكانية ظهور مجتمعات أناركية مناوئة وهادرة تتحول إلى دروع سميكة من لحم ودم، في مواجهة النخب المتورمة ببذخها وأنانيتها من الساسة الأميركيين المنتفعين بمناصبهم، وضد الأثرياء المتخمين بالرفاهية والتفاهة والتملّق، القابعين خلف أقنعتهم الزاهية واللامعة والمزيفة أيضاً، والتي لا تشبه أبداً أقنعة المهرجين في حفلتهم التنكرية الأبدية، حفلة الخواء، وجلد الذات، والكآبة المتوارية، والموت البطيء.
وفي الوقت نفسه، تبرز إشكالية أخرى يطرحها الفيلم وتتمثل في غياب الأيديولوجيا البديلة لدى الأناركية الجماعية، فكل ما تقدمه هو الغضب الشديد، والأسلوب الهمجي المؤدي إلى (حرق كل شيء)، حيث يتخلص الجوكر علانية (وبصورة مضللة إلى حد ما) من أي اهتمام بالسياسة من خلال مونولوج يصل لذروته، كما أن رغبته في قتل النخب تكون مدفوعة بالانتقام البدائي، وليس في إيجاد نظام عالمي واضح الأبعاد والمضامين، مثل ذلك النظام الذي بشّر به جوكر فيلم «الفارس الأسود» الممثل الراحل هيث ليدجر، أو النظام المتماسك الذي سعى له جوكر فيلم «صعود الفارس الأسود» وأداه الممثل توم هاردز، فبالنظر إلى استنتاج الفيلم العنيف للغاية، فإن قابلية تحقق هذا الجانب من هويته قد تشكل خطورة أيضاً على استقرار وازدهار ورخاء المجتمعات المستقبلية.
إن مصدر حالات الجنون هو عدم التوازن الدائم بين حالات الاستثارة والاسترخاء، وهو ما تجسده تماماً شخصية الجوكر في الفيلم، والتي تلغي هنا المعنى المغلوط والقديم في الأوساط الفلسفية التي كانت ترى أن العالم يعرف حجمه ويبرر وجوده من خلال السيكولوجيا، بينما على هذه الأوساط اليوم أن تبرر وجود هذا العالم أمام النزعة الفوضوية والشعبوية للجنون.
إن مدينة (غوثام) الخيالية التي طالما شكلت البيئة المثالية في الأفلام الجامعة بين الجوكر والرجل الوطواط في السلسلة السابقة، تبدو في هذا الفيلم وكأنها مصاغة برؤية مغايرة من قبل المخرج تود فيليبس الذي منحها حسّاً واقعياً مضاعفاً بالتصوير الحيّ والديناميكي في الشوارع الحقيقية لنيويورك وبرونكس ونيوجيرسي، مع ترسيخ مفهوم العزلة الفردية والشعور بالتهديد المستمر وسط هذه المدن القابلة للانفجار الشعبي في أية لحظة، فهي مدن تتقاطع بمناخها المتوتر مع «سفينة الحمقى» التي ذكرها ميشيل فوكو في كتابه «تاريخ الجنون»، والتي كانت تجوب أنهار أوروبا في العصر الكلاسيكي بسبب اعتقاد الناس حينها أن الجنون مرض معد، مثل مرض الجذام، إنه مجاز مليء بالصور والاستيهامات والرموز، ومفارقة لا تنجو من تهكم مرير، تترجمها شخصية الجوكر في الفيلم وبأداء مذهل من خواكين فينيكس إلى مثال صارخ للأيقونة المحطّمة، والإلهام المنزوع من إغراءات المجد، ذلك أنها شخصية مصابة في الروح، أشبه بالفريسة الضامرة، ولا سلطة لها على أفكارها، وطاقة الانتقام لديها دائماً ما تكون موجهة نحو التدمير، والتدمير فقط.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©