الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«البروباغاندا» المبدعة

«البروباغاندا» المبدعة
17 أكتوبر 2019 00:03

عندما طُرق باب الرسام الشهير جاك لويس دافيد ليلة 20 يونيو عام 1801 لم يكن يتوقع أبداً أن من يقف خلف باب مشغله هو نابليون بونابرت شخصياً. لم تكن زيارة ودية بريئة بين الحاكم وصديقه الرسام، بل كانت زيارة سرية أراد منها القائد العسكري الفرنسي الطموح حبك خيوط خطة سياسية ذكية مع الرسام الذي نذر فنه وريشته لمبادئ الثورة. فبونابرت الذي كان يعلم أن طريقه إلى تاج الإمبراطورية التي كان يحلم بها يجب أن يمر بأفئدة الفرنسيين قبل عقولهم، فهم اللعبة السياسية منذ البداية وعمل مع «دافيد» على حبك صورة إعلامية مبهرة تعكس للجميع مدى قوته، وجسارته وحكمته، فكان من أوائل من ابتكروا نمط «البروباغاندا» أو ما يسمى اليوم بالدعاية السياسية.

في ذلك الوقت كان بونابرت لم يزل بعد القنصل الأول لفرنسا الذي اكتسب شهرة عالمية بفضل إنجازاته الحربية والسياسية على السواء. بلاده التي وصلت تحت قيادته إلى مصاف الدول الأكثر قوة وتأثيراً في السياسة الإقليمية كانت ترى فيه قائدها الأوحد، الذي أعاد تأسيسها بعد أن تداعت قواها عقب الثورة بسبب الحروب الخارجية والخلافات الداخلية التي مزقتها.

تكليف ملكي
في مايو عام 1800 قاد بونابرت قواته عبر جبال الألب في حملة عسكرية ضد النمساويين انتهت بهزيمتهم في يونيو من العام نفسه فيما يسمى بمعركة «مارينغو». وبمناسبة هذا الإنجاز العسكري التاريخي قام شارل الرابع ملك إسبانيا بتكليف الرسام الفرنسي جاك لويس دافيد برسم صورة لنابليون بونابرت ليتم تعليقها على جدار في القصر الملكي في مدريد خصص لصور كبار القادة العسكريين في التاريخ.
بعد أن كُلف رسمياً من قبل القنصل الإسباني برسم اللوحة التي طلبها منه الملك، سأل دافيد قائد فرنسا الأول عن الطريقة التي يود أن يظهره بها، فرد نابليون بكلمات مقتضبة ولكن تحمل الكثير من المعاني: «لا يهمني أن أجسد حقيقة ما حصل في المعركة من مهارة في القتال أو أن أظهر كمية الدماء التي أريقت، بل أريد أن ترمز هذه الصورة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، أريدك أن تصورني هادئاً على حصان جامح». طلب بونابرت من دافيد أن يرسم له نسخة أخرى له عند الانتهاء من نسخة شارل الرابع، وقد كان له ما أراد. ففي ليل 20 يونيو من عام 1801 فاجأ نابليون صديقه الرسام بزيارته السرية لمشغله في اللوفر ليعاين نسخته التي لم تكن قد انتهت تماماً بعد. وما أن وقع نظر بونابرت على لوحة «بونابرت عابراً جبال الألب»، حتى غرق في تفكير طويل، ثم استدار نحو دافيد مصفقاً وانهال عليه بعبارات الإعجاب والمديح.
مع أن بونابرت كان مهتماً كثيراً بهذه اللوحة إلا أنه رفض الجلوس أمام دافيد ليرسمه فقد كان ذلك بالنسبة للقنصل الأول المنهمك بحروبه وحملاته العسكرية مضيعة للوقت. فالجلوس أمام ريشة دافيد لرسم لوحة كهذه قد يستغرق أياماً وشهوراً. آمن نابليون بأن الصورة يجب أن تكون تمثيلاً لشخصيته لا لشخصه فقال لدافيد: «إنها الشخصية التي تملي للرسام ما يجب رسمه وليس الشكل الخارجي»، وعندما أصر عليه دافيد بالجلوس أمامه ولو لساعات ليحفظ للتاريخ ملامحه كما حُفظت ملامح العظماء من قبله بصور مماثلة أجابه نابليون: «لا أحد يعرف ما إذا كانت صور الرجال العظماء تشبههم أم لا، يكفي أنها تجسد عبقرية حياتهم».
إلا أن بونابرت ساهم بإعداد هذا العمل بطريقتين، الأولى بأنه سمح لدافيد بالحضور إلى الإسطبلات الخاصة به ليرسم نموذجاً للحصان الجامح الذي يمتطيه في اللوحة، فاختار دافيد اثنين من أحصنة نابليون كنماذج للوحته، أما الطريقة الثانية فكانت بأن أرسل إليه بزته العسكرية التي ارتداها خلال معركة «مارينغو» ليرسمها في اللوحة.
لم يستسلم دافيد لهذه المعضلة التي وضعه القنصل الأول فيها فما كان منه إلا الاستعانة بابنه الأصغر فأجلسه لساعات طوال على سلم خشبي كي يستطيع رسم جسم القنصل الأول ممتطياً حصانه الجامح، واضعا البزة العسكرية التي أرسلها نابليون على مجسم خشبي ليرسم تفاصيلها وألوانها بتأنّ، مستعينا بتمثال نصفي لنابليون ليصور تعابير وجهه بإتقان.

إيحاء العظمة
إن هذه اللوحة التي رسمها دافيد تعد الصورة الأشهر لنابليون على الإطلاق، وهي تحيي مشهد مروره فوق قمة جبل سان برنار الحادة، فتُظهره يتوسط المشهد بملامح شابة هادئة، مرتدياً رداءً أحمر اللون (زي قائد جنرال) يميل باتجاه الريح مع قبعة «بيكورن» وسيفاً مرصعاً بالذهب وقفازاً أسوداً في يده اليسرى، ممتطياً حصاناً جامحاً يربى على ساقيه الخلفيتين ويضرب ذيله بنفس اتجاه الريح، فيعطي انطباعاً عن شجاعة وجسارة فارسه. يدور نابليون برأسه نحو المشاهد ويشير بيده اليمنى نحو قمة الجبل بحركة آمرة، ممسكاً بيده اليسرى بزمام فرسه. يمكننا أيضاً قراءة أسماءٍ محفورة على الصخور أمامه فيبدو اسمه أولاً، يليه اسم الملك شارليمان ثم اسم القائد هنيبعل، وفي خلفية الصورة يظهر جنوده يشقون طريقهم إلى قمة الجبل مرتدين بزاتهم العسكرية. طغت ألوان الأبيض والأحمر والأزرق (ألوان العلم الفرنسي) على الصورة، خصوصاً بنسختيها الأولى والثانية. وركز دافيد (على عكس عادة الفنانين في ذلك الوقت) على انعكاس الضوء والظلال بدلاً من التفاصيل الصغيرة، ويظهر ذلك بوضوح خاصة في طريقة معالجته لنتوء الحصان.
إن ظهور اسم بونابرت مقروناً باسم هنيبعل القائد العسكري الشهير الذي مر بأفياله بجبال الألب في عام 218 أثناء الحرب البونية الثانية، واسم الملك شارلمان الذي مرّ بدوره بنفس المكان عام 773 في معركته ضد اللومبارد، لم ترد في اللوحة محفورة على الصخور أمام نابليون وحصانه عبثاً، بل لبث إيحاء واضح لكل من يشاهد هذه التحفة الفنية بأن القائد الفرنسي الجديد يضاهيهم عظمة وحنكة وبطولة.
لم تكن مواقف دافيد الثورية وحدها السبب في اختيار نابليون له ليكون رسام الإمبراطور الأول، بل لأن لوحاته تحوّلت إلى رسائل ثورية وسياسية تحمل الكثير من المعاني التي كانت تصل إلى الجمهور وتحرك مشاعره. كان دافيد بكل بساطة بطل الفن التصويري وكان مؤيداً متحمساً لنابليون يرى فيه بطل فرنسا الذي يحارب أوروبا ليمنع عودة الملك إلى عرش فرنسا. فبعد أن نصّب نابليون نفسه إمبراطوراً لفرنسا عام 1804، اختار دافيد دون غيره ليرسم له أجمل وأشهر لوحاته التي علقت فيما بعد على جدران فرساي، كلوحة «نابليون يعبر جبال الألب»، و«نابليون يتوّج جوزفين»، و«توزيع النسور»، وعيّنه رسميّاً كرسام الإمبراطور الأوّل.

«فوتوشوب» سياسي
بعد قيام الثورة الفرنسية امتلكت الصحافة سلطة كبيرة في التأثير على الشعب، ما أدى إلى استخدام أسلوب الدعاية كأسلوب أساسي في الصراع السياسي. وبعد وصول نابليون إلى السلطة كانت الصورة مجازية المعنى، هدفها الأول تمجيد سيد فرنسا الجديد. فباتت الصورة جزءاً من منظومة الدعاية السياسية المؤثرة على الشعب.
لكي نفهم أكثر مدى أهمية الرسم على الرأي العام حينها، علينا أن نعي أن الرسم كان له في تلك الحقبة تأثير كبير على الجمهور الفني تماماً كالسينما والتلفزيون أو أي طريقة من طرق الإعلام المرئي أو المسموع التي نعرفها اليوم.
لذلك يمكننا أن نشبّه ما حدث في ذلك الوقت بـ«الفوتوشوب» في وقتنا الحالي. إلا أنه ليس «فوتوشوب» لتحسين وتجميل المظهر الخارجي للشخص، بل «فوتوشوب» إنساني بهدف سياسي.
والجدير ذكره أن لهذه اللوحة خمسة إصدارات بنفس الحجم تقريبا (2.2×2.6 م) نفذت بين عامي 1800 و1805:
الأولى، كانت لملك إسبانيا، وتعرض اليوم في متحف مالميزون في فرنسا.
الثانية، والتي كانت بطلب من نابليون بونابرت شخصياً، نقلت عام 1816 إلى برلين لتعرض بعدها في قلعة Charlottenburg حتى يومنا هذا.
الثالثة، تم إرسالها عام 1836 إلى المتاحف الملكية في فرساي، وهي النسخة المعروضة اليوم في متحف اللوفر أبوظبي.
الرابعة، كانت مخصصة لقصر الجمهورية الإيطاليّة في ميلانو، حيث بقيت هناك حتى عام 1834، ثم نقلت إلى فيينا لتعرض في متحف بلفيدير.
أما النسخة الخامسة والأخيرة التي رسمها دافيد لنفسه ولم يعلم أحد بوجودها إلا بعد موته عام 1825 فقد أودعت في قصر فرساي عام 1979 وبقيت هناك حتى اليوم.

نابليون في اللوفر أبوظبي.. الأكثر شعبية
في كتابه «اللوفر أبوظبي – الدليل الكامل» شرح لنا البروفيسور «جان – فرانسوا شارنييه» الذي كان قيّماً على اللوفر أبوظبي خلال فترة إنشائه وافتتاحه، وجهة نظره في تخصيص مكانٍ مميّز لهذه اللوحة في قلب المعرض التاسع من الجناح الثالث للمتحف.
فالبروفسور شارنييه أصّر على عرض لوحة الإمبراطور الفرنسي بونابرت على بعد خطوات من لوحة الرئيس الأميركي جورج واشنطن بطريقة تسمح للزائر بالمقارنة بينهما، فاللوحتان تجسدان صورة اثنين من أعظم حكام التاريخ لكنهما من مدارس سياسية مختلفة.
فإذا نظرنا إلى بورتريه جورج واشنطن (1822)، بطل الحرب التي حررت الأراضي الأميركية من الاستعمار البريطاني، وأول رئيس رسمي للولايات المتحدة الأميركية ومؤسس دستورها، نراه كما ارتأى أن يصوّره الفنان «جيلبارت ستيوارت» (1755 - 1828) بلوحة زيتية بطول 164.5 وعرض 122 سم، جالساً بهدوء خلف مكتبه بخلفيّة ستارة حمراء ورسم قوس قزح، كرمز لأرض الميعاد والتي هي هنا ليست إلا تعبيراً مجازياً للأمل بولادة أمة جديدة يرعاها الله. إن «ستيوارت» الذي كان رسّام الرئيس واشنطن الرسمي لم يرد أن يصوّر الرئيس الأميركي كبطل من أبطال الإغريق والرومان، بل ركّز على إظهار حكمته برسم تفاصيل ثيابه الوقورة وتعابير وجهه الرزينة كرجل عمل ورؤية ليشعر كل من يراه أنه بين أيدٍ أمينة.
أسرّت لنا الأخصائية الأولى للعلاقات العامة في الشؤون الدولية والمؤسسية في متحف اللوفر أبوظبي مريم صالح الظاهري أن لهذه اللوحة شعبية كبيرة بين صفوف جميع أطياف زائري المتحف، فمذ عرضت لوحة «بونابرت عابراً جبال الألب» في اللوفر أبوظبي عام 2017 تصدرت قائمة اللوحات التي يطلب الجميع، خصوصاً الملوك والرؤساء والحكام الزائرين للمتحف، التقاط صورة معها. فهل حلم حاكم فرنسا الأشهر بالمجد والشهرة معدٍ؟ أم أنها النفس البشرية التي تنظر إلى كل ما هو مثالي وبطولي بإعجاب وانبهار حتى ولو كان ذا حقيقة زائفة؟ أم أنها موهبة «دافيد» في الرسم وطريقته الآسرة والمبهرة في عرض مواضيعه التي تجعل كل من يعاين هذه التحفة الفنيّة التاريخية يفتن بها؟ لنعرف الإجابة عن هذه الأسئلة علينا حتماً البحث عنها بأنفسنا عند زيارتنا للمتحف، حيث ستبقى هذه اللوحة المعارة من فرنسا باستضافة أبوظبي لحسن الحظ لوقت غير محدّد..

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©