السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

خطايا شارع 20

خطايا شارع 20
27 سبتمبر 2018 00:28

هل لاحظت تلك اللوحة المغروزة في كتف الشارع عندما اخترتَ بيتك؟ البناية التي تضمّ شقتك؟ الأرضَ التي ستبني عليها حلماً تسكنهُ أنتَ وأفراد عائلتك لاحقاً؟ هل منحتها شرف نظرةٍ خاطفةٍ تقرأ فيها على عجل عنوانكَ الجديد؟ أظنّكَ فعلتَ ذلك حقاً، لا عندما وقّعت على عقد منزلك، منزلك الذي لا تدري أأنت ساكنه الأول أم الأخير! أو أنّ ما يتدثّر بالأرض التي تطؤها قدماك – وستفعل كلّ يوم اعتباراً من هذه اللحظة – رفات عاشقٍ أم شظايا قنبلة أم صندوق أرملة أم درع محارب لم يعد يذكره أحد – بل فعلتَ عند تسلمك أول فاتورة كهرباء لتتأكد من موقعك على خريطة أعبائك المنزلية، ولتنتبهَ أخيراً إلى أنك بتّ رقماً آخر في هذا الحي، وبيتك - الذي أسعده أن يمارس دوره باحتمال وطمأنينة - عادَ دالّةً يُعرفُ بها الشارع كما يفترضُ به أن يكون.
وبكل الأحوال، من واجبي أن أبادرَك أيها الجار الذي زادنا رقماً على رقم بالترحاب: أهلاً بكَ في شارع 20.

تعداد
الحي الذي ولد من رحم الانتظار باتَ متكدس البيوت كأنها جثثٌ متفسخةٌ ملقاةٌ على جانبيه، لكننا منذ زمن لم نعد نذكر متى زارنا لأول مرة! كنا وحدنا في تلك الرقعة المعزولة عن العالم نهش الذباب عن الذاكرة عندما بدأت الشوارع تحمل أسماءً، والأزقة كُنى تلتصقُ بجدران أصحابها، قال رجل التعداد بأن هذه السلسلة من البيوت المتناثرة يجب أن تحمل أرقاماً، وهذه الشوارع والممرات التي تحيط بنا ستتحول في غضون سنوات إلى مسارات للنحل والعابرين، حرّكنا أغصاننا غير عابئين به، عدّد الجيران على أصابعهم أفراد أسرهم، بأسمائهم وأعمارهم وآخر من نجح منهم في المدرسة، أو سافر بعيداً كي لا يعود بخيبة انتظار جديدة.

ثم أغلقوا الأبواب
كنتُ أتثاءبُ وأتمطى والسماء مشرعة في كل اتجاه، العصافير تحملُ ما تيبّس من أغصاني إلى الجنة، وكلما تساقطت أوراقي وداستها الأقدام انتابتني موجة عارمة من السعادة؛ طعم الخلود في فمي، الأوراق التي تُطحن بالرمل، وإليه تعود، ثم تتسربُ إليّ فتغذي روحي التواقة إليها مراراً وتكراراً، والأولاد يلعبون ويتبارون في تسلق أغصاني، أحنو عليهم حيناً، وأغضب حيناً، يتطلع طفلٌ خائف إلى الأفق فيرى مدينة توشك أن تبتلعنا تتقدم إلينا كجيش جرار من البيوت والسيارات، فأرسل حفيف أوراقي يخفف عنه ويواسيه، ثم لا يلبث أن يتسلق غصني ولدٌ مشاكس يتأبط شراً، فيجذب أطرافي ليوجعني فأداويه بالكسر، ليسقط ويبلل جذوري بدموعٍ ساخطة.
أستكين في الليل فيمسّد جذعي عاشقٌ يحفر اسم حبيبته عميقاً كمن يخبئ سراً، أحتمل الألم في سعادة من يحفظُ طعم قُبلة نزلت على شفتيه فضّتهما من فرط الحماسة.

حفيف الذاكرة
يتمدد الليل على ذراعيّ، مبللا بالماء المنكّه بالكلور ليبدو أصفى على الجسد المستلقي عليه، وكأنّ شالا حريرياً أخضر اللون ينساب على جسدي، أحدق في أغصان الشجرة التي تظلل المسبح، فيبادلني سكانها التحديق! أبتسم، فيبتسمون، أطمئن إلى تلك الهالة التي تحفّني، وأنصتُ إلى حفيف أوراقها المتصاعد كأنها تحية الساكن الجديد.
أبحث عن أثر الفيرمون (1) الذي أطلقته الشجرة في الهواء لتنشر بين صديقاتها خبر استئناسها بي.
أتساءل وأنا أتأمل نقشاً محفوراً على جذعها تجاوز عمره سبعين عاماً: أأنا كذلك؟ ساكن جديد يحتاج إلى تعارف أول؟ أم أننا التقينا من قبل؟ أجففني من أثر الشجرة، وأخطو تجاهها لأبادلها التحية:
«لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ، فلنذهب إلى أَعلى الجداريات:
أَرضُ قصيدتي خضراء، عالية، كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي وأَنا البعيدُ أَنا البعيدُ» (2)

أن ترى
قبيل الفجر أرى وميضاً أكاد أشم رائحته: «حريق!». أصيح ململمةً أطرافي، فتلاحقني عيون الأشجار تتثاءبُ من خلفي: «ككل يوم يا شجرة! ألا تملّين ترديد ذلك! أتعبتنا معكِ ». ولكني أراها..
لست بزرقاء اليمامة فيكذبوني! ولا ارتديت ثوب الأزرق الملعون فيصدون عني! (3) ما أنا إلا خضراء..
خضراء «تمشي الآن كإنسان يملك روحه وإن كان يمشي لنار المحرقة». أنصتُ إلى الصوت يأتي، أحتملُ الحرارة تحرّق جذعي وتأكل أطراف ثوبي، وأسمعها تحكي: «في السماء يا عائشة شجرة كبيرة تحمل أوراقاً خضراء بعدد أهل الأرض، كل أهل الأرض، الصغار والكبار، البنات والبنين، من يتكلمون العربية مثلنا ومن لا يتكلمونها.
شجرة كبيرة يا عائشة تتساقط منها أوراق وتنبت أوراق بلا توقف.
وفي ليلة القدر من كل سنة تزهر الشجرة زهرة غريبة عجيبة.
وفي تلك السنة التي حدثت الحكاية فيها أزهرت الشجرة....» (4).

قمر أخضر
كعينيها، يلتمع القمر الأخضر في السماء، لكأنه قطّ في مشوارٍ ليلي حميم، تنصتُ إلى موسيقى الأشجار التي تعزف سيمفونية محبة آخذة في الذوبان، هذا الشارع يعرفك، كل تلك الشاخصات المرمّزة ما هي إلا أقنعة تحول بينك وبين جيرانك.
شارع خمسة، سبعة، تسعة،....
آه! كان الجيران يعرفون بعضهم بعضاً، يتزاورون، وعندما التصقت الأرقام بجدران البيوت، باتوا غرباء أكثر فأكثر، فما من داع لأتعرف على جاري رقم 68 ومن يدري من يسكن في البيت رقم 80...
عندما نتحول إلى أرقام، فإننا نتخفف من أعباء الحياة الاجتماعية، نصبح أرقاماً في دليل اصفرت أوراقه لا أكثر..
يتواصل معها من يرتبط بها بمصلحة (5). أجل، باتت الأشجار سلوانا وعزاءنا وجيراننا، غصنٌ يتسلل من فوق جدارنا ليصل إلى جدار جارنا، يتلصص على أخبارنا وينقلها رسائل في الهواء الرطب.
كقصة ذلك الملك الذي خشي أن يعرف سكان مدينته بأن لديه أذنين كبيرتين، ولم يستطع حلاقه كتمان السر فباح به إلى بئر على قمة جبل، فما مر يوم إلا ووشت الجبال والسهول والجداول به، ففضح وعلم كل سكان المدينة بأمره!

أرقام لا تصادق أحداً
الأرقام لا تصادق أحداً ولا تعاديه، قد تبتسم لك ابتسامة صفراء لكنها ما تلبث أن تفقد أسنانها واحداً تلو الآخر بينما تدوس عجلات سيارتك الإسفلت باحثة عن موقف مناسب تنهي عنده رحلتها.
أقف أمام لوحة تحمل رقم الشارع، رقمي، رقم كل أولئك الذين يجاورونني.
لو أنهم فكروا مثلاً أن يجعلوا الشوارع بأرقام عشرية، أو سالبة، ما كان سيتغير يا ترى؟ هل كنا سنشعر بحميمتها حينذاك؟ هل كنا سننظر إلى الأشجار حينها بعين الرأفة، دون أن نفكر باقتلاعها لنتوغل في إسمنتنا أكثر فأكثر!.
«أين ذهبتَ يا 54 شارع الرحمة؟
(.....)
أنزِلِ الظلال أنا لا أبالي !
سمّري الأبواب يا رحمة امسحي الأرقام مزقي علامات الشوارع ما الذي سيهم هذا الشحيح الذي يريد امتلاك الماضي الذي خرج في سفينة ميتة وتركني وليس معي..غير الأوراق» (6)

جذورنا التي تطير
أعشاشها التي تسكنني تدغدغ أغصاني، تبثّ فيّ الحياة، وفي أجنحتها الغضة بريق أمل بأنني مثلها، سأطير يوماً.
لكنني لم أتوقع أبداً أن أفعلها، لم يسبق لي أن رأيت شجرة تحلّق بعيداً لتغرس جذورها في السماء.
النار التي رأيتها في منامي تجسدت في ذلك المنشار الذي انغرس في اللحم والعظم.
يصفر فيصمّ الآذان، والأخريات من حولي ينتحبن: فعلتها يا خضراء!
تنسحبُ أغصاننا عن البيوت واحدة تلو الأخرى، وتتساقط الأعشاش كقطرات من مطرٍ أسود لا يزيد الأرض إلا عطشا.
وحين نفقد مزيج ألواننا، تبدأ رحلتنا الأخيرة إلى السماء، يكبلون جذعي بالجنازير، فتصعد روحي إلى السماء السابعة، وتتقزّم كل الأشياء من تحتي، الشوارع والبيوت والذكريات، آه! أنا أطير..
لا إلى الحرية، بل إلى العتمة!

رصيف الحفاة
هنا، رسمتُ إشارة توقّف، وانتظرت.
زرعتُ شجرة لكنها أبت الإنصات إلى ظلي، فماتت عطشاً.
ربما يمكنك أن تكذب على إنسان مثلك، لكن أن تكذب على شجرة..
فذلك مستبعدٌ تماماً.
أن تنكر تلك الروح (7) التي تسبر أغوارك، تكشف أسرارك، تسخر من جبنك، تقرأ أفكارك دون حاجة إلى أن تنبس ببنت شفه، تعالجك وتشفيك منك.
لا، لقد فشلت في اختبار الإخلاص، وتدثرت بالخطيئة، فاخلع نعليك، وكبل قدميك بأشواك الطريق، واستبدل رقماً يابساً باسمك، ثم امضِ.
.............................
هوامش:
1- الفيرمون: هرمون يفرز خارج الجسم للتفاعل مع الأجسام الأخرى المتجانسة.
2- من «جدارية» محمود درويش.
3- تمثل العين الزرقاء عين الشيطان، وقد تشاءمت منها العديد من الثقافات وحاولت مواجهتها بالتمائم والقلائد التي تحمل خرزة زرقاء على شكل عين، من أبرزها الفراعنة، والبابليون، والأتراك، وقد سجلت الخرزة الزرقاء لدى اليونسكو باعتبارها من القيم الثقافية والتراثية.
4- ثلاثية غرناطة، رضوى عاشور.
5- «تباعدت المسافات بين بيوتنا، صارت الشوارع إسفلتية، وما عدنا نمشي على أرجلنا إلا نادراً.
كل شيء أصبح بعيداً.
حينا صار ملوناً بالأسود والأبيض، لا نشاهد فيه غير العمال يكنسون الشوارع، والشباب يتجولون في فراغه»، غراميات شارع الأعشى، بدرية البشر، دار الساقي.
6- قصيدة 45 شارع الرحمة، آني ساكستون.
7- «يصر جورج بليزانس - مهندس مياه وغابات - على العلاقة النفسية والفزيولوجية للإنسان بالشجرة:«إشارات الحياة للنبات، حتى المحسوسة دون وعي، هي دعوة إلى هذا الانتقال للطاقة في جسمنا، الهام جداً في مفاهيم الشرق الأقصى، والمأخوذ من المعالجين بوخز الإبر، من قبل الأذن..
لم نكن أبداً بحاجة إلى معارف في الفزيولوجيا العامة لكي نشعر أن النسغ يسري في الشجرة كما يسري الدم في جسمنا، وأن الطاقات مستمدة من بعض أماكن الشجرة (..) كل شيء في الشجرة، صلابة الجذع كما ليونة الأوراق، قابلة للمشابهة الثقافية، وللنقل النفسي، ويمكن إذن أن يساهم - إذا كان بإمكاننا أن ندمج الشجرة بنا - في تحسين قامتنا ووظائفنا الحيوية.
كما يجب علينا أن نتمرن على هذا التماثل كما فعل شعراء عديدون، من كتاب اللغات السرية في الطبيعة، جان ماري بيليت، الفارابي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©