الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تلاقٍ خلاق بين الإبداع المحلي والعالمي.. مجتمع التنوع الثقافي

تلاقٍ خلاق بين الإبداع المحلي والعالمي.. مجتمع التنوع الثقافي
28 نوفمبر 2019 03:29

عبير زيتون

يدرك الناظر في تأمله لشساعة بنيان التنمية الشاهق بجمالياته المادية، والهندسية، ووسائل خلقها، واستخدامها الراهن، أن هذا الإنجاز العظيم لم يتحقق بضربة حظ، ولم يكن وليد الصدفة، أو مجرد استجابة عفوية لثروة طبيعية تفجرت في أرض البلاد من هنا وهناك، وإنما هو بلا شك نتاج صيرورة تاريخية، قامت على قراءة تاريخية، أبدعت في تعاملها مع نمط متكامل من الأنساق والأنماط والبناءات في شقيها المادي والمعنوي، شكلت بتكاملها المتنامي مع الزمن، الخزان التاريخي الولَاد، والحاضن الداعم الذي تنصهر فيه اليوم كل ما نشهده على أرض دولة الإمارات العربية من كيانات ثقافية، وصروح عمرانية وهندسية عملاقة، ومشاريع مستقبلية، تتميز بحيوية عناصرها، وتفاعل أدوات نسيجها في الإنتاج والتطور وديناميكية تطورها القائم على محاورة القيم المتأصلة بمفهوم التنوع الثقافي وحوار الثقافة الوطنية مع تنوع الثقافات الإنسانية.
وشكل المثلث المفاهيمي (المجتمع –الثقافة –الشخصية) عماد اهتمامات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، منذ إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة، في الثاني من ديسمبر من عام 1971، انطلاقاً من بصيرة واقعية، تؤمن أن الحياة البشرية بطبيعتها متحورة، وهي حياة ذات تاريخ وطبيعة تفاعلية تحولية دائما وأبدا، قائمة على «ثقافة الإنسان وفكره ككائن سلام مستقبلي» كضرورة اجتماعية تاريخية، تًكون شخصيته، وتحمل سماته، وتشكل نمط حياته، وتشكل عامل قوة في النهوض بهويته، والارتقاء بها، وسط فضاء مجتمعي منفتح يقوم على ذاكرة من معاني التكافل، والتفاعل، والتضامن، والتسامح، وهذا ما يتبلور بوضوح بقوله: «إن أفضل استثمار للمال استثماره في خلق أجيال من المتعلمين والمثقفين، علينا أن نسابق الزمن، وأن تكون خطواتنا نحو تحصيل العلم، والتزود بالمعرفة أسرع من خطانا في أي مجال آخر».

فلسفة سلام
انطلاقاً من هذه البصيرة الإنسانوية، واعتماداً على قيادة ملهمة عقلانية، ووحدوية، مشبعة برؤية شعرية وثقافية أصيلة، أرسى المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، «فلسفة سلام» الإمارات الثقافية «كموقف، وسياق حياة دافقة فياضة زاخرة بالعلاقات، والتفاعلات، والعلاقات، والمكتسبات المتبادلة، وانفتاح الهوية على الهوية، وانكشاف الذات على الآخر، وتصالح الحاضر مع الماضي، والعمل الجماعي، والمجتمعي كجسور مؤمنة (أن الإنسانية واحدة، وإن تعددت وتنوعت ثقافاتها)، وهذا ما تنطق به اليوم جماليات مشاريع التنمية الشاملة في طبيعة مشاريعها العمرانية، والثقافية والمعرفية في كافة أنحاء البلاد، مع نموها المتسارع على سكة الكم والنوع، وفي طموحاتها الأفقية والعمودية، جعلت من دولة الإمارات العربية، قاعدة راسخة لمفهوم (مجتمع التنوع الثقافي) المدعوم بقوة انفتاح القوانين المؤسساتية المتجددة، ترعاها وتخطط لها وفق خطط عمل مستدامة متكيفة مع التحولات المحلية والعالمية، يعبر عنها، عالمية صناعة المعارض الثقافية، والمؤتمرات الفكرية، والمهرجات التراثية، والفلكلورية، والموسيقية، والفنية، والفكرية المتنوعة في طبيعة قضاياها، وأساليب طروحاتها المبتكرة، في تنوع خلاق ومبدع بين تنوع الثقافي العالمي، وتنوع الثقافات الوطنية، في نسيج مبتكر يتغذى من بعضه البعض، ويبين مقدارالمشتركات الإنسانية في ثقافتها وتراثها المادي وغير المادي والمعنوي.
ولأن الثقافة من دون «لغة وتعليم» تعتبر ضرباً من المحال، خاصة كلما ازدادت الثقافات تعقيداً، وتداخلا، ازدادت الحاجة إلى الاتصال والتواصل، لتعزيز القدرة على التفكير الرمزي، والمجرد، وهي ما تحتاج إليه «اللغة» التي تعتبر شرطاً أساسياً وضرورياً لأي مجتمع إنساني، لفهمه واستيعاب كينونته، فعن طريق اللغة يرسم الإنسان «سلوكه الثقافي» ويعكس قيمة وثراء هويته.
انطلاقا من هذه الأهمية للغة والتعليم ولتعزيز التفكير بها، والنهوض بواقعها، لاستئناف حضارة «اقرأ»، أعلنت القيادة الرشيدة في الإمارات عن (استراتيجية وطنية للقراءة في 2016) تضمنت أفكاراً، ومشروعات رائدة كإنشاء الصندوق الوطني لدعم القراءة بقيمة 100 مليون درهم، وتخصيص شهر للقراءة كل عام، وإعداد قانون وطني للقراءة، وإحداث تغييرات في الأنظمة التعليمية والمناهج الدراسية لبناء جيل إماراتي قارئ ومثقف، وقادر على استئناف حضارته العربية في تقاطعها الإنساني والمعرفي عالمياً.
كما يمثل مشروع «تحدي القراءة العربي»، الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عام 2015، أكبر مشروع معرفي عربي، نجح خلال 4 دورات، في استقطاب نحو 33 مليون طالب، وترك بصمة واضحة في رفع نسب القراءة على مستوى المنطقة العربية، خاصة في ظل ما يقدمه من جوائز تحفيزية للمشاركين تصل قيمتها الإجمالية إلى 11 مليون درهم.
وانطلاقاً من الوعي الحضاري بأهمية اللغة العربية، جاءت مبادرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لتأسيس وإقامة أول مجمع للغة العربية في إمارة الشارقة، ليكون عوناً ومسانداً للمجامع العربية في مختلف أقطار العالم العربي، يعمل حالياً على إصدار «المعجم التاريخي للغة العربية»، وهو مشروع كبير، وشامل يؤرّخ لجميع ألفاظ اللغة العربية منذ نشأتها الأولى إلى عصرنا الرّاهن، ليكون مواكباً لمتغيرات العصر المتسارعة، ووعاءً حافظا وداعماً لتطور اللغة في واقعها الحالي.
كما تعمل دولة الإمارات على مشروع إعداد (تقرير حالة اللغة العربية ومستقبلها)، لتوفير حلول لغوية تؤدي إلى مواجهة المشكلات التي تواجهها، وتعيق تطورها وانفتاحها على أدوات العصرالتكنولوجية والعلمية.
وفي مجال التعليم، قدمت مؤسسات دولة الإمارات العربية الدعم والتمويل لـ 120 مدرسة تابعة لشبكة مدارس اليونيسكو، وذلك من بين العديد من المشاريع المحلية والإقليمية والعالمية الأخرى التي تقودها الدولة تحت مظلة منظمة اليونيسكو، لبناء جسور التواصل مع الحضارات، والثقافات، وحفظ وصون التراث الإنساني العالمي، وتلبية الكثير من الاحتياجات الإنسانية في مجال العلوم والثقافة والتعليم.
ويعتبر فوز الإمارات العربية مؤخراً بعضوية المجلس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، تعبيراً واضحاً عن ثقة المجتمع الدولي في الجهود التي تقودها الإمارات في المجالات الثقافية والتعليمية والعلمية، وفي توسيع آفاق التعاون الدولي، وتفعيل الحوار العالمي، وتحويل الأفكار إلى مبادرات خلاقة تخدم المجتمعات الإنسانية، وتعزز قيم الإبداع والانفتاح والحوار بين ثقافات جميع دول العالم.
وإحياء لحركة الترجمة في العالم العربي، محاولاً استرجاع أمجاد «بيت الحكمة العربي»، وإيماناً بدورها ك (وسيط) تواصلٍ بين الشعوب والحضارات المختلفة، تأتي أهمية مشروع «كلمة» الذي أنشأته دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي عام 2007 ويعتبر مبادرة طموحة تسعى إلى إحياء حركة الترجمة في العالم العربي، ودعم الحراك الثقافي الفاعل الذي تشهده أبوظبي للمساهمة بدورها في خارطةِ المشهدِ الثقافي الإقليمي والدولي، حيث قام منذ إطلاقه بإثراء المشهد الثقافي بأعمال مترجمة عن مختلف اللغات العالمية ومختلف مجالات العلوم والفنون والآداب، ليكرّس الدور الذي تلعبه الإمارات بشكل عام، والعاصمة أبوظبي خصوصاً كمركز عالمي للثقافة والمعرفة والفنون في المنطقة، وتحقيق التواصل والتفاعل بين الثقافات من مختلف أنحاء العالم.

أبوظبي مركز ثقافي عالمي
من هذا المنطلقات والركائز مجتمعة، نفهم اليوم كيف أصبحت «أبوظبي» اليوم، مركزاً ثقافيّاً عالميّاً، تحتل الصدارة في تنوع منظومتها الثقافية والتعليمية، تمضي بخطوات ثابتة ومدروسة نحو ترسيخ نموذج عالمي متفرد لمفهوم العاصمة الثقافية المنفتحة على جهات الأرض، مستندة في ذلك إلى خطة استراتيجية عميقة في استهدافاتها القريبة والبعيدة، جوهرها الاستثمار في قوة التنوع الثقافي، كقوة ناعمة رديفة وداعمة في بناء جسور حضارية، تترجم توجهاتها العالمية كأساس في التلاقي، والحوار، والانفتاح، والتسامح الحضاري.
من هنا نستطيع فهم الدور الكبير الذي تضطلع به رسالة (القمة الثقافية العالمية) الذي تشرف على تنظيمها (هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة) كحدث سنوي، الأول من نوعها، تجمع صفوة من الشخصيات الثقافية والإبداعية في العالم، لمناقشة القضايا الأكثر إلحاحاً في القرن الواحد والعشرين، وهي تعكس دور الاستثمار في الثقافة الإنسانية لمواجهة تلك التحديات المعاصرة على مواجهة ظلامية التطرف وثقافة الحروب والإرهاب، وتكريس لغة السلام والتسامح.
 وانطلاقاً من ثوابت القيم الحضارية التي كرسها الآباء المؤسسون في الحفاظ على جوهر الهوية الوطنية، وذاكرتها الجمعية الواعية لقيم التفاعل والتنوع الثقافي الإنساني المشترك، تأتي أهمية متحف «اللوفر أبوظبي» كأكبر رسالة نموذجية عالمية لنهج التنوع الثقافي، والفكري الذي تسعى المؤسسات الثقافية إلى تكريسها. ويعد وبلا منازع من أهم المشاريع الثقافية الطموحة والاستثنائية على مستوى العالم، وأول متحف عالمي في العالم العربي، ومن أهم مكوّنات استراتيجية (أبوظبي) الثقافية الرامية إلى الحفاظ على هوية الدولة المنفتحة، وتراثها العريق، وتاريخها الحضاري الطويل في نشر رؤية الإمارات الثقافية والراسخة، بإيمانها (أنّ تقدم الأمم، وتطور حضارتها يُبنيان على التنوع الثقافي، والتسامح، وتشجيع الحوار المشترك والانفتاح على الآخرين).
- فيما يعتبر «متحف زايد الوطني» الصرح المعماري الأهم في العاصمة أبوظبي، وهو يقف شامخاً وسط المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات باعتباره المتحف الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة، ويمثل كتاباً مفتوحاً يجمع في تفاصيله سيرة مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وجهوده الواسعة مع توحيد الإمارات ومراحل تطور الدولة، وعلاقاتها الثقافية والحضارية والتجارية مع العالم.
أما «متحف غوغنهايم» في أبوظبي فهو يمثل منصة عالمية للفن، والثقافة المعاصرة، ليقدم أهم الإنجازات الفنية في العصر الحالي.
يمتاز بشكل معماري خلاب تمتزج فيه التقاليد العربية مع التصميم المعاصر.

خزان الذاكرة الثقافية
واستمراراً للتوجه التنموي والمعرفي في تكريس «مفهوم الهوية الوطنية»، وفق قيم التنوع الثقافي وحوار الثقافات، أعادت دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي افتتاح «المجمع الثقافي» والذي افتتحه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في العام 1981، واحتضن أول معرض للكتاب في أبوظبي، وأول مكتبة وطنية، ومسرحاً، وقاعة عرض متعددة الأغراض، ومركزاً لحفظ الوثائق والبحوث، والمسرح والمرسم الحر، وبيت العود وقسم التصوير الفوتوغرافي والسينما، وغيرها من الأقسام الفنية التخصصية التي تشكل في مراعاتها للاختلاف والتنوع الإبداعي، منصّة داعمة للفنانين للتعلّم والتفاعل والإبداع، يتيح التفاعل الحر مع التراث الوطني واستكشاف الممارسات الإبداعية المعاصرة من خلال تقديم مجموعة متنوعة من البرامج التعليمية والترفيهية المصممة للأطفال وكل أفراد العائلة، ليصبح المجمّع الثقافي بذلك انعكاساً حقيقياً لمقاربة أبوظبي في مجال المعرفة بوصفها وجهةً أساسية لعرض تنوع أعمال الفنانين من الإمارات والعالم في حاضنة واحدة.
كما تعكس فعاليات «مهرجان أبوظبي» بآفاقه المتعددة، وبرامجه الإبداعية، وحيوية منصاته الشبابية، والذي تنظمه مجموعة (أبوظبي للثقافة والفنون) مدى التزامه بمفهوم الاستثمار في التنوع والاختلاف الثقافي، وفي تعزيز مكانة أبوظبي كمركز عالمي لأرقى التجارب الفنية الإنسانية، ومنصة عالمية للتبادل الحضاري، ليس فقط عبر نشر الإرث الحضاري لدولة الإمارات، بل وعبر التحاور والانفتاح على سياقات ثقافية ومعرفية عالمية.
ولعل صفة التنوع الثقافي وحوار الثقافات يتجلى بقوة مع فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب، بتنظيم من دائرة الثقافة والسياحة، وقد كرس حضوره كقوة حوار فكرية وثقافية ناعمة وفاعلة لآداب العالم خلال ربع قرن فقط، وعلامة فارقة، وراسخة في عالم صناعة النشر في منطقة الشرق الأوسط، ومنصة عالمية مميزة لمحبي الكتب والقراءة، تلتقي عبر فعالياته الفكرية المتنوعة، ثقافة الشرق والغرب في انصهار حيوي متبادل يعززه احتفاء المعرض سنوياً بثقافة إحدى بلدان العالم، كضيف شرف مميز، احتفاء بكتابه وثقافته وآدابه وفنونه.
وبهدف تسليط الضوء على «أهمية المعرفة بكافة أشكالها، وتعزيز البرامج، والأفكار التي تساعد على نشر الوعي بالمعرفة في جميع أنحاء العالم، أطلقت (مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة) مؤتمر المعرفة منذ عام 2014 ليكون أكبر منصة عالمية لإطلاق المبادرات، والمشاريع المتعلقة بتحويل مجتمعاتنا العربية إلى مجتمع المعرفة، في حدث سنوي يجمع أكثر من 300 خبير ومتحدث، وصناع قرار، وقادة الفكر على مستوى المنطقة والعالم، لوضع الخطط ورسم السياسات المستقبلية عبر بحوث المعرفة ونتائج أبحاثها.
كما استطاع كل من (مهرجاني كلباء وخورفكان الثقافيين) الذي تنظمهما (دائرة الثقافة بالمنطقة الشرقية) منذ أربع سنوات متواصلة، تنشيط الحركة الثقافة والفنية في الإمارتين التاريخيين، وجذب الأنظار إلى الموروث الحضاري والتاريخي فيهما.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©