الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سيد درويش.. الصوت الخالد

سيد درويش
31 أغسطس 2023 01:06

إيهاب الملاح

- 1 -
أذكر أنني كنت في العاشرة من العمر تقريباً عندما شاهدت فيلم «تزوير في أوراق رسمية» الذي ظهر فيه الفنان إيمان البحر درويش (حفيد سيد درويش)، وهو يقدم مجموعة من أغنياته المدهشة بإيقاع وتوزيع جديد، لكنها في المجمل تحافظ على إرث سيد درويش الإبداعي وتجديده العبقري في الموسيقى العربية.
وبعد ذلك بسنوات، ومع سماع ما تبقى من ألحان وأغنيات وتراث سيد درويش بالجملة، أدركت أنني أمام موسيقار فذ، مؤسس ومجدد ومبتكر، ظهر في مرحلة تاريخية فاصلة قلب فيها صفحة القرن التاسع عشر في الموسيقى العربية المدنية، كما يقول المؤرخ الموسيقي اللبناني فكتور سحاب، وسطّر بعض ما عنده في أولى صفحات القرن العشرين، في كتاب أكمل صفحاته وسوَّد نوتاته الإبداعية موسيقيون التقطوا الخيط منه، ومدُّوه على استقامته، فأبدعوا أعذب الألحان وأجمل الأغاني، وكان على رأس هؤلاء محمد عبدالوهاب، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، ولعلِّي أضيف إلى هذه السلالة الذهبية أيضاً بليغ حمدي.
وعلى امتداد قرن كامل، لم تعرف الحياة الموسيقية المعاصرة ملحناً شغل الناس مثل سيد درويش، فقد تخاطفت تراثه جميع أنواع التيارات الموسيقية والسياسية، معتبرة إياه زعيمها الروحي وزعيم المدرسة الموسيقية الملتزمة، والفن الملتزم، كالموسيقيين والمثقفين الذين ينتمون إلى اليسار السياسي، والفئة ذاتها المنتمية إلى الخط القومي، وعلى رغم هذا التجاذب، لم تعرف حياتنا الموسيقية شخصية موسيقية كتب عنها الموسيقيون والنقاد والسياسيون والمفكرون العرب أكثر من سيد درويش. وفي الوقت نفسه، لم تعرف حياتنا الموسيقية ملحناً أذيعت أعماله وقدمت على المسارح أقل من سيد درويش، كما يرصد ذلك بدقة المؤرخ الموسيقي سحاب.

- 2 -
لم يظهر سيد درويش (1892-1923) في فراغ وإنما ظهر وقد تكوَّن الرعيل الأول من الملحنين والمغنين المصريين، كما يوثِّق ذلك التاريخَ الدكتورُ كمال مغيث، ومنهم: عبدالرحيم المسلوب، ويوسف المنيلاوي، ومحمد الشلشموني، ودرويش الحريري، ومحمد عثمان، وسلامة حجازي، وعلي القصبجي، وعبده الحامولي، ومن النساء الست ألمظ، وساكنة هانم.
وهؤلاء الفنانون هم الذين مهدوا للمدرسة الحديثة في الغناء والموسيقى، ومع هذا لم يكن هؤلاء الفنانون العظام يعرفون الأغنية بمعناها وموضوعها الذي عرفناه فيما بعد، وإنما كانت كلها «أدوار» و«موشحات» ينتمي بعضها للعصور الوسطى، وبعضها مما ألّفه ولحنه هؤلاء الرواد.
ولكن ساعد غياب مفهوم ومعنى الملكية الفكرية، وعدم وجود آلات التسجيل، على أن تسري تلك الأدوار والموشحات عبر الأثير، يتلقفها كل مؤدٍّ ومطرب وفنان تبعاً لمهارته وقدرته و«سميعته» الخاصة، ولم تكن أغراض هذا النوع من الغناء تتجاوز الغزل العفيف والوصف العفيف أيضاً للمحبوب فضلاً عن الشكوى من صد الحبيب وهجرانه.
ولكن مع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، كانت مصر (والعالم العربي كله) تتأهب لمجتمعٍ جديد وثقافة حديثة، ونظام سياسي حديث، كان لابد أن يواكبها أيضاً «غناء حديث»، وضعت الحظوظ تأسيسه وبلورته على عاتق الفنان العبقري سيد درويش (1892-1923) الذي عاش صدر شبابه وهو يؤدي الأدوار والموشحات التقليدية التي سبقت الإشارة إليها.

- 3 -
ارتبطت أعمال سيد درويش وروائعه كلها بالروح المصرية الخالصة، وأتصور أن سيد درويش يمثِّل في الموسيقى ما كان يمثله نجيب محفوظ في الرواية، وتوفيق الحكيم في المسرح، وطه حسين في الدراسة الأدبية والنقدية والفكر والثقافة عموماً. وكان سيد درويش واعياً بإرثه الموسيقي، ومستوعباً له، ومنطلقاً منه في كل ما قدمه من تجديدات وإضافات في الأغنية واللحن.
والحال أن سيد درويش مثَّل نقطة فارقة في تاريخ الموسيقى المصرية بخاصة، والموسيقى العربية بعامة، فقد انتقل سيد درويش بالموسيقى العربية من طور «التطريب» إلى ركب «التعبير»، حسب عبارة محمد شبانة، بعد أن كان الغناء العربي غارقاً في المحسّنات البديعية، والتكرار الذي لا طائل من ورائه، ولا مبرر له سوى الرضوخ لإرادة المغني -المطرب- والتكريس لحضوره، فهو سيد الحال والمقام.
ولقد مر سيد درويش بمراحل عدة شكلت إبداعه الفني، أولاها مرحلة التكوين الفني التي استوعبت السنوات الأولى من صباه، وثانيتها المرحلة التقليدية عند سيد درويش، وهي التي تلَت عودته من رحلته إلى الشام. وثالثتها، المرحلة التي انتقل فيها إلى القاهرة قبل اندلاع ثورة 1919، وقدمه إلى جمهور القاهرة الشيخ سلامة حجازي.
ولأهمية المرحلتين سالفتي الذكر (الشامية والقاهرية) في إبداع سيد درويش ومسيرته الموسيقية، من المهم إلقاء مزيد من الضوء عليهما.
وفي عام 1912 سافر سيد درويش إلى سوريا مرة ثانية، ومكث بها حوالي سنة كاملة، امتلأت خلالها جعبته بالكثير من الأغاني والموشحات والكتب الموسيقية، مثل كتاب: «تحفة الموعود في تعليم العود» وغيره، بالإضافة إلى ما سمعه من الشيخ الموصلي، وموسيقيين آخرين.
ثم عاد سيد درويش إلى الإسكندرية فبدأت ينابيع فنه تتفجر وتتطور من «الدور» إلى «الطقطوقة» إلى «الأغنية الشعبية»، مثل: «يا فؤاد ليه بتعشق»، ثم «يا اللي قوامك يعجبني»، و«زوروني كل سنة مرة»، و«يا ناس أنا مت في حبي، وجم الملائكة يحاسبوني»، وموال «يا عين ليه تنظري لاهل الجمال تاني»..
وغير ذلك من الأغاني الشعبية التي كانت سبباً في ذيوع صيته وانتشاره في أوساط الطرب والمغنى بالإسكندرية في ذلك الوقت.

- 4 -
نقطة التحول الكبرى في حياة سيد درويش الفنية كانت في عام 1917 حين انتقل إلى القاهرة، وتعرف إلى أصحاب الفرق المسرحية المعروفة آنذاك، مثل: عمر وصفي، الذي لحن له سيد درويش مسرحية «الشيخ وبنات الكهربا»، ثم اتفق مع جورج أبيض على تلحين رواية: «فيروز شاه» التي لفتت الأنظار إلى فن سيد درويش وإبداعه، ثم اتفق مع نجيب الريحاني على تلحين رواياته، وأولها رواية: «ولو» التي نجحت نجاحاً باهراً.
لكن سيد درويش كان على موعد مع المجد والخلود في كتاب النضال الوطني المصري والعربي، بعد أن صار صوت الثورة الشعبية الكبرى، صوت الأمة الصادح لثورة 1919 التي أنتجت -فيما أنتجت من آثار- الفترةَ الذهبية في تاريخ مصر الثقافي والفني والإبداعي وهي الفترة التي تمتد من 1923 وحتى 1952.
وهكذا، ما إن اندلعت الثورة الوطنية الكبرى في تاريخ المصريين التي أشعلت طموحهم وتضحياتهم لمواجهة الاستعمار، وبعث تاريخهم القومي المجيد، وبناء دولتهم الحديثة، حتى مثلت هذه الأغراض التاريخية الطاقة التي ألهمت سيد درويش موضوعات أغانيه الحديثة، وأسهم سيد درويش بأناشيده الوطنية وألحانه الثورية الخالدة، في إذكاء روح الثورة، ليغني لزعيم الثورة المصرية سعد زغلول:
«مصرنا وطنّا
سعدها أملنا
كلنا جميعاً للوطن ضحية».
ويغني للوطن ولأبناء الوطن:
«قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك»، 
و«أنا المصري كريم العنصرين».
وغير ذلك من الألحان التي انتشرت وحفظها الشعب عن ظهر قلب وكان لسيد درويش فضل إبداعها وتوظيفها في خدمة قضايا وطنية مختلفة تمخض عنها الحراك الثوري آنذاك، وكان من هذه الإبداعات ما نادى بتشجيع الصناعة الوطنية وتفضيلها على المستوردة (القلل القناوي)، والتمسك بالوطن وعدم الهجرة منه (سالمة يا سلامة.. رحنا وجينا بالسلامة). 
ولا تغفل أغنياته وألحانه مساندة فئات المجتمع المصري، بكامل مكوناته وعناصره وشرائحه الطبقية والاجتماعية والفئوية، والتعبير عنها غناء ولحناً، كالموظفين والبوستجية، والسقايين والمراكبية، والفلاحين والعمال والصنايعية، ويغني أيضاً للجرسونات والشيالين، والعربجية.. إلخ.
ومنها أيضاً نقد سياسات سلطة الاحتلال الإنجليزي في (شد الحزام يا سيد) التي تنتقد قيام الإنجليز بمصادرة وسائل النقل، ونقد الغلاء (استعجبوا له يا أفندية... لتر الجاز بروبية!). 
ولا يفوته أيضاً أن يغني للمرأة ونهضتها، ويحضّها على المشاركة في النضال الوطني والدفاع عن الوطن:
«بنت البلد يا ولد محلا قيافتها، ودا وقتك دا يومك يا بنت اليوم»،
ويغني للوحدة الوطنية ومناهضة الطائفية:
«إيه نصارى ومسلمين قال ايه ويهود
دي العبارة أصل واحد م الجدود
اللي الأوطان بتجمعهم
عمر الأديان ما تفرقهم».. إلخ.
ولا ينسى في خضم هذه الحماسة الملتهبة الحبَّ والعواطف الجياشة، فيغني: «أنا عشقت»، و«أنا هويت»، و«خفيف الروح بيتعاجب»، ثم يتحفنا برائعته الخالدة: «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، التي صارت النشيد الوطني المصري. نعم. كانت هناك عبقريات تقف خلف تلك الكلمات الملهمة كيونس القاضي، وبديع خيري، وبيرم التونسي، ولكن تظل عبقرية سيد درويش هي التي صاغت من هذا كله «الغناء المصري والعربي الحديث»

- 5 -
جدد سيد درويش في موضوعات الأغنية العربية، فإن تجديداته الحقيقية وإضافاته المهمة كانت في مجال الموسيقى والتلحين، حيث يعد سيد درويش أول من أدخل إلى الموسيقى العربية التجديدات التي عدّ منها سليم سحاب عشرين إضافة، منها:
«الديالوج الغنائي» الذي دخل الموسيقي العربية في العشرينيات من القرن العشرين على يد صفر علي، ولكن دخوله الكبير في موسيقانا كان على يد سيد درويش في مسرحية «العشرة الطيبة»، وديالوج: «على قد الليل ما يطول» الذي ختمه بمقام العجم لأول مرة في الموسيقى العربية التي كانت تلزم الملحن بختم اللحن على نفس المقام الذي بدأ به. وكذلك التصوير الموسيقي أو التصوير بالموسيقى مثل دور «يا اللي قوامك عاجبني»، وفيه تتدرج كلمة قوامك على السلم الموسيقي إلى أعلى من درجته الأساسية ثماني درجات حتى تصل إلى الجواب، ومثل «علشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي».
وسيد درويش هو أول من أدخل الجدلية الموسيقية في التلحين العربي، أي الجمع بين المشاعر المتناقضة مثل «اتمختري يا عروسة» من مقام «حجاز كار كورد»، الحزين وهي تغني في فرح، ولكن العروس تزف إلى من لا تحب.
وهو أيضاً أول من أبدع «فن المونولوج»، وهو الغناء الفردي الذي يعتمد على السرد اللحني دون إعادة جملة موسيقية سبق استعمالها، وهو مُستلهم من فن «الآريا» في الأوبرا الغربية التي تأثر بها سيد درويش، وكان يدمن حضور عروضها مثل «والله تستاهل يا قلبي».
وكذلك استعمل سيد درويش الآلات الغربية، مثل «البيانو» و«التشيللو»، في تطوراتٍ موسيقية فنية كثيرة أخرى، عدَّدها سليم سحاب في دراسته عن سيد درويش بعنوان «البدايات التأسيسية للموسيقا العربية: سيد درويش نموذجاً».

- 6 -
أما دور سيد درويش في مجال التمثيل والأوبرا فلا يقل أيضاً عن دوره في مجال الموسيقى بكل فنونها، فقد أضاف إلى ما سبق، تلحين الأوبرا ومنها: أوبرا «شهر زاد» عام 1920، وأوبرا «العشرة الطيبة» لمحمد تيمور، وأوبرا الباروكة وهي معربة عن أوبرا لاما سكوت لاروان، والفصل الأول من أوبرا «كليوباترا وأنطونيو»، التي أكملها محمد عبدالوهاب.. إلى غير ذلك من الألحان التي بلغت 326 عملاً موسيقياً، منها 66 أهزوجة (طقطوقة)، وعشرة أدوار، وسبعة عشر موشحاً إضافة إلى 233 لحناً في ثلاثين (أوبرا) مسرحية غنائية.
وأنشأ سيد درويش فرقة للأوبرا قدمت أوبراته الثلاث: «شهر زاد»، و«الباروكة»، و«العشرة الطيبة».
وأخيراً... كُتب عن سيد درويش الكثير من الدراسات والكتب، ولاسيما الكتب التي أصدرها ابنه الموسيقي حسن درويش، وتوجد جمعية باسم جمعية أصدقاء موسيقى سيد درويش بالقاهرة، وحظي بألقاب كثيرة، أشهرها: فنان الشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©