قضيت قرابة أسبوع في جمهورية التشيك مستمتعاً بأجوائها، لا برد قارس ولا حر لاهب، والغيث قد يزورك أحياناً دون أن تهرب من زخاته وقطراته ممزوجاً بنسمات من الهواء العليل والسحب تظلك بظل ظليل.براغ منذ العام 1993، أصبحت عاصمة جمهورية «تشيك» بعد أن انشقت عن شقها الآخر، التي تحولت إلى سلوفاكيا. لقد استطاعت «تشيك» انتزاع نفسها من فك «النازية» ومن ثم من قبضة الاتحاد السوفييتي، ومن قبل خمسة قرون عندما كانت امبراطورية بوهيمية خرجت من تحت مظلة الإمبراطورية الرومانية.

هذا الصراع المرير والطويل من أجل أن تسترد استقلالها من بين أيدي عمالقة التاريخ آنذاك، لقد نجحت بجدارة، وفي فترة قصيرة من زمن التاريخ السياسي لأي دولة، أن تصبح في قلب العالم النابض. فهي سرعان ما التحقت بالاتحاد الأوروبي، وبالناتو وغيرها من المنظمات الدولية، التي وضعت هذه الدولة الفتية في وسط عينها الراعية.

ما هي محاور التميز في جمهورية «التشيك»؟ أول شيء الأمن، فهي من حيث الأمان في المرتبة 13 في قائمة دول العالم، وقد طردت الفوضى بعيداً عن مجتمعها، حتى تستطيع انتخاب رئيسها عبر البرلمان، وتقديم الرعاية الصحية والتعليم بكل مراحله للشعب بالمجان. شعب صحيح في بدنه وسليم في عقله، ماذا ينقصه، فيها مدن مليئة بالجامعات، ومدن أخرى تنسج خيوط الحرير وأخرى تنتج المعادن والفحم وتنشئ المتاحف لها للتعليم والتجريب.

أرأيت شعباً يقوم بتحويل المواد القابلة للتدوير، إلى فن جميل أخاذ يسمى فن الغموض، وبنى لفنانيه متحفاً متخصصا لهذا الفن الراقي، الذي حول غموض هذا الفن إلى لوحة أوضح من اللوحات المشهورة. في براغ مباشرة على نهر «فالتفا» الذي يقسم المدينة إلى جزءين قديم وحديث، وعلى الضفة الأخرى من النهر أمامنا سلسلة جبال تحيط بها غابات أخاذة، يغري السائح على صعودها، فعزمنا على ذلك، وبعد وصولنا إلى القمة فإذا على سطحها الممتد مد البصر مدينة حديثة هانئة، أول مبنى كان على مرآنا ملعب أوليمبي ضخم، وحديقة من الغابات مليئة بأشجار العنب والبندق والتوت والكستناء الطعام اللذيذ للسناجب التي تتراقص فرحاً في تلك الغابة الشاسعة، هذه المدينة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، إلا بالصعود على هذا الجبل أو باستخدام المواصلات العامة، والفرق في صعودها عبر الجبال أنك ترى جنة من الأشجار المؤرخة والمرقمة بانتظام من يوم ميلادها وحتى ساعة إبهارها لعيون زوارها. الآن سآتي إلى صلب الموضوع في المقارنة المجحفة، بين ربيع «براغ» وما يسمى بـ«الربيع العربي»، الذي لم يستطع تحقيق ما حققه ربيع براغ في تشيك.

ابحثوا ملياً في أروقة الدول العربية التي تلطخ «ربيعها» بفوضى عارمة ودماء الأبرياء، ماذا استفاد هذا من ذاك الذي قدم لشعبه الرفاهية على سكك القطار الحديثة التي تربط أوروبا بشبكة واحدة، وترام يقطع الأحياء السكنية جيئة وذهاباً، وقافلة راقية من القاطرات المعاصرة للتطورات التقنية، ومعها سيارات الأجرة التي لا تعرف غير لغة النظافة. ولكم بعد ذلك أن تصدقوا تجربة «تشيك» بمنطق تعمير الأوطان، أم «ربيعا» آخر يسرق كُحلَ الأمن والأمان من عين الأوطان؟!

* كاتب إماراتي