تقع مدينة لوزان السويسرية على بحيرة جنيف، وهي مدينة رائعة تضمّ جامعة لوزان المرموقة. في أثناء زيارتي للمدينة ربيع العام 2022 قال لي أحد الأصدقاء هناك: هل تعرف أن موسوليني درسَ في كلية العلوم الاجتماعية- جامعة لوزان، وهل تعرف أنه حصل على شهادة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الكبيرة؟
تأسست جامعة لوزان في القرن السادس عشر كمدرسة دينية لتخريج قساوسة الكنيسة، وفي نهاية القرن التاسع عشر أصبحت جامعة حديثة، واليوم هي خامس أفضل مؤسسة بحثية في أوروبا حسب تصنيف جامعة ليدن.
كان الزعيم الفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني الذي ولد في شمال إيطاليا عام 1883 قد هرب من أداء الخدمة العسكرية، وذهب إلى سويسرا عام 1902. وفي صيف ذلك العام ألقت الشرطة السويسرية القبض عليه بتهمة التشرد، حيث وجدته نائماً تحت أحد الكباري!
لاحقاً عمل موسوليني مدرساً في المرحلة الابتدائية بعض الوقت، ودرس في جامعة لوزان، ثم خاض طريقه في الصحافة والسياسة حتى تولى زعامة إيطاليا قبل مائة عام، في خريف 1922.
أسس موسوليني الحزب الفاشي الإيطالي، وتحالف مع الحزب النازي بقيادة هتلر، وهُزِم كلاهما في الحرب العالمية الثانية. في ألمانيا انتحر أودلف هتلر، وفي إيطاليا أعدمت المقاومة الإيطالية موسوليني، وعلقت جثته من قدميه في محطة وقود، ليراه الناس.
عادت قصة موسوليني وجامعة لوزان إلى الأضواء من جديد في الأسابيع الأخيرة، وذلك بعد رفض الجامعة سحب درجة الدكتوراه الفخرية التي منحتها له.
في عام 1937 وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بعاميْن.. قامت جامعة لوزان بمنح الدكتوراه الفخرية لموسوليني، وقالت الجامعة في حيثيات المنح: «لقد تخيّل موسوليني، وحقّق في وطنه منظمة اجتماعية، ستترك بصمة عميقة في التاريخ»
لم يحقق موسوليني شيئاً لوطنه، أدخل ذلك الديكتاتور الدموي بلاده في حرب انهزمت فيها، ولم يترك الزعيم الفاشي أية بصمة عميقة في التاريخ، بل ترك بصمة سوداء في إيطاليا والعالم.
من المثير في قصة جامعة لوزان وموسوليني ما رأته الجامعة بهذا الصدد، فلقد رأتْ أنها لم تكن على صواب، وأن تكريمها كان خطأً جسيماً، وعلى الرغم من أن قيم الجامعة مناهضة للفاشية، إلاّ أنها لن تقوم بإلغاء الدكتوراه الفخرية، لأنه يجب أن تستمر الجائزة كتحذير دائم ضد الانحراف الأيديولوجي.
إن المنطق الذي قدمته جامعة لوزان مهم للغاية، ذلك أنه من الضروري أن يستمر التذكير بالانحراف الأيديولوجي للأشخاص والتنظيمات والجماعات. ذلك أن بعضهم يبدأ على نحو جيّد، أو هكذا يبدو الأمر، ثم سرعان ما ينحرف المسار وتبدأ المآسي.
إن أكثر ما عاناه العالم في العصر الحديث هو ذلك الانحراف الأيديولوجي، أولئك الذين تحدثوا عن الحرية والمساواة في الغرب، ثم أيدوا استعمار الآخرين، وأولئك الذين تحدثوا عن تنوير الفقراء ثم تركوهم في ظلمات لا يبصرون، وأولئك الذين حدثوا بسطاء الناس عن الإسلام والدعوة والتربية والعدل.. ثم انطلقوا يقتلون ويدمرون.
يبدأ البعض منحرفاً منذ اللحظة الأولى، ولكن أغلب التاريخ شهد موجات أكبر من أولئك الذين انحرفوا فيما بعد. الانحراف الأيديولوجي خطر على الحياة وتهديد للوجود.
* كاتب مصري