تتبنَّى دولة الإمارات العربية المتحدة خططاً طموحة للوصول إلى هدف «صافي الانبعاثات الصفرية» بحلول عام 2050، ولا شك في أن ذلك تحدٍّ كبير، ولا سيَّما في الدول الخليجية التي يعتمد ناتجها المحلي كثيراً على القطاعات النفطية. وعند النظر في الإحصائيات العالمية والمحلية نجد أن مصادر الانبعاثات الكربونية تأتي من ثلاثة أنشطة رئيسية هي: انبعاثات الكهرباء العامة وإنتاج الحرارة (31 في المئة)، وانبعاثات النقل البري (17 في المئة)، وانبعاثات الصناعات التحويلية والبناء (12 في المئة).
إن منظومة النقل البري هي مزيجُ أنماطٍ من الحافلات والقطارات والسيارات ومسارات المشي وغيرها، يلبي تكامليّاً حاجات التنقُّل في المدينة من الناحية الوظيفية، ولكنه قد لا يلبي بالضرورة تطلعات الدولة من نواحي مؤشرات الأداء، فمثلاً تطمح دولة الإمارات إلى تخفيض الانبعاثات الكربونية بمعدل 60 في المئة في قطاع المواصلات، وفي الوقت نفسه هناك مؤشرات أداء اقتصادية واجتماعية، أي أننا أمام تحدي تقليص نسبة الانبعاثات بأقل التكاليف، وبما يحقق أعلى مستويات الرفاه الاجتماعي، لذا فإن رضا المستخدمين عن شبكة التنقل ليس المقياس الوحيد للأداء، برغم أنه مقياس مهمّ تُوليه الدولة اهتماماً بالغاً، ما يزيد صعوبة التحدي على صاحب القرار، في ظل منظومة تهيمن عليها وسائل النقل الخاص وشبكات الطرق الإسفلتية، وهذه لا تُعَدُّ الحل الأمثل بيئيّاً.
لذا حرصنا في دولة الإمارات العربية المتحدة على تطوير منهجيات متكاملة لتقييم المزيج الأمثل لأنماط النقل البري من منظور شمولي يأخذ في الحسبان التبعات البيئية والاقتصادية والاجتماعية في جميع مراحل المشروعات، بدءاً من التصنيع (وما يتخلله من عمليات استخلاص المواد الخام ومعالجتها ونقلها)، ومروراً بالإنشاء والتشغيل والصيانة، وانتهاءً بالإزالة أو الهدم. ولعل أهم ما يمكن استخلاصه من البحوث والدراسات، التي أجريناها طوال 30 عاماً من الدورات العمرية لمشروعات الطرق في إمارة أبوظبي، هو أن نسبة الانبعاثات الكربونية في مرحلة التشغيل لا تقل عن 93 في المئة، سواء في الطرق الرئيسية أو الفرعية، مقارنةً بالانبعاثات الكربونية في مرحلة الإنشاء، التي لا تزيد على 7 في المئة من إجمالي الانبعاثات.
وبيَّنت إحدى دراساتنا أن بوسعنا تخفيض معدل الانبعاثات بنسبة 55 في المئة، والتكلفة 51 في المئة على مدى 30 عاماً لإحدى الطرق الرئيسية في إمارة أبوظبي إذا استخدمنا حلولاً بديعة، مثل تخصيص مسار للحافلات الكهربائية ذاتيَّة القيادة، أي المزج بين النقل العام والنقل الخاص بدلاً من النمط الحالي الوحيد (السيارات الخاصة)، وهذا الانخفاض الكبير في التكاليف والانبعاثات الكربونية ناتج من فرضية تقليل استخدام السيارات الخاصة، وزيادة وسائل النقل العام، ما يُفضي إلى استهلاك أقل للوقود، وانخفاض معدل الازدحام والحوادث وصيانة المركبات، وغير ذلك من معطيات مرحلة التشغيل للطريق المعنية، فضلاً عن تبعات صيانة تهالك الطريق الإسفلتية، وما يصاحبها من عمليات تصنيع ونقل وإنشاء.
والدرس الرئيسي المستفاد من هذه النتائج هو أننا إذا أردنا تحقيق أهدافنا الطموحة المتمثلة في تقليل الانبعاثات، آخذين في الحسبان الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، فإن التركيز ينبغي أن يُصَبَّ على الجانب التخطيطي الذي يُعيد صياغة منظومة النقل على نحو يُقلّل الحاجة إلى استخدام المركبات الخاص، ما يقلل الانبعاثات في مرحلة التشغيل. وهذه المسألة لها جانبان، أولهما مرتبط بالتخطيط الحضَري للمدينة من حيث توزيع استخدامات الأراضي، و«محرّمات الطرق»، بما يُقلّل الحاجة إلى استخدام السيارات الخاصة في المسافات الطويلة، ويقلّص الاختناقات المرورية. أما الجانب الآخر، فيرتبط بتخطيط شبكة النقل البري من ناحية اعتماد الحل الأمثل لمزيج أنماط التنقل المختلفة بما يحقق أعلى مستوى أداء بيئي واقتصادي واجتماعي في منظومة النقل إجمالاً.
الأساس إذن هو التخطيط، أما ما يتبع ذلك من تحسينات، مثل استخدام وسائل ومواد صديقة للبيئة، فقد يُؤتي ثماره، ولكنْ ليس على نحو جوهري يحقق تطلعات الحياد المناخي بحلول عام 2050.

* مدير مركز الإمارات لأبحاث التنقل في جامعة الإمارات