ستون سنة هي عمر البنك المركزي اللبناني الذي تأسس عام 1963، تولى نصفها (1993–2023) الحاكم رياض سلامة، إذ أشرف خلال هذه المدة على إدارة السياسة النقدية وضبط العمل المصرفي، وذلك في سياقِ مهمته التي نص عليها قانونُ النقد والتسليف. ومع الأخذ بالاعتبار نجاحه في تثبيت سعر صرف الليرة بحدود 1500 ليرة مقابل الدولار طوال 27 سنة، وازدهار القطاع المصرفي الذي بلغت موجوداته 270 مليار دولار، وهو يفتخر بالجوائز الدولية التي نالها كأفضل حاكم للبنك المركزي.. فقد واكب الانهيار المالي الكبير الذي تدحرج منذ العام 2019، مع ارتفاع الدين العام إلى 95 مليار دولار وانخفاض الناتج المحلي من 54 مليار دولار إلى أقل من 20 مليار، وخسارة الليرة نحو 98% من قيمتها، ليصل سعر صرفها 90 ألف ليرة للدولار.
لقد كانت المصارف قبل عام 2019 تتباهى بحجم الودائع الهائل لديها، والذي بلغ 170 مليار دولار، وقد أودعت جزءاً كبيراً منها في مصرف لبنان، طمعاً بالفوائد والأرباح، وواصلت الانغماس في الديون السيادية، رغم تحذيرات محلية وخارجية، من خطورة الاستمرار في هذا النهج التدميري في دولة «فاسدة ومنهوبة». ونتيجة لذلك تراجع حجم الودائع إلى97 مليار دولار، حيث تعرضت لعملية «تذويب قسرية»، وارتفعت نسبة «الدولرة» إلى96.1%.
وتعترف جمعية المصارف في تقرير رسمي بأن 51 مليار دولار من أموال المودعين «تبددت» خلال 43 شهراً. وتراجع احتياطي المركزي من 31 مليار دولار إلى أقل من 10 مليارات، أي أنه تم هدر نحو21 مليار دولار. ولو تمت إعادة هذا المبلغ إلى المودعين لكان تم إنصاف مئات الآلاف منهم، لكن المنظومة السياسية «المتحكمة» فضلت تحويل هذه الأموال إلى جيوب المنتفعين النافذين، وتهريب جزء كبير منها إلى الخارج.
ورغم تورط مصرف لبنان بلعبة التنفيعات والزبائنية والمضاربات، وزج النقد الوطني في المصالح السياسية المالية، فقد خرج الحاكم السابق سلامة ظهر الإثنين الماضي من مبنى المركزي بسجل عدلي «لا حكم عليه»، لأن قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبوسمرا الذي يحقق في قضيته «لم يكوّن قناعةً بعد» حول ما إذا كان سلامة متهماً فعلا بجرائم اختلاس وتبييض أموال أم لا، رغم وجود مذكرتي توقيف فرنسية وألمانية، وبطاقة حمراء لملاحقته من «الأنتربول».
وإذا كان سلامة قد تخلى عن استقلالية البنك المركزي، وخضع لضغوط المنظومة السياسية، بالاستمرار في تمويل الدولة، فإن الحاكم الجديد بالوكالة وسيم منصوري، شدد «على براءته وزملائه نواب الحاكم الثلاثة من كل تجاوزات الحاكم السابق، لاسيما لجهة إقراض الدولة»، موضحاً أنه «لن يوقع على أي صرف لتمويل الخزينة خارج القانون»، ومؤكداً بأن «هذا الاستنزاف يجب أن يتوقف نهائياً».. لذا فهو يطالب الحكومةَ بإقرار قانون يجيز التمويل من التوظيفات الإلزامية، بشروط تؤكد على إعادة المال إلى مصرف لبنان لتعزيز قدراته على التدخل في سوق القطع ومواجهة تحديات تحرير سعر الصرف وإدارته، والتعامل مع القطاع المصرفي «المتعثر». لكن يبدو أن هذا القانون يصعب مروره، في ظل استمرار «الاشتباك السياسي» القائم.
وفي هذا المجال، تمكن التستعانة بتجربة البنك المركزي الأميركي، وهو نموذج رائد في تحقيق الاستقلالية والكفاءة، وذلك لكي يتجاوز «المركزي اللبناني» التأثيرات السياسية وتعزيز دوره كجهة مستقلة وموثوقة، لتحقيق النمو الاقتصادي، والاستقرار المالي، في اتخاذ القرارات النقدية الحكيمة والمستقلة، والتصدي للتحديات الاقتصادية الراهنة.

*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية