بصرف النظر عن محاولات إزاحة الدولار من موقعه الدولي سواء من داخل مجموعة «بريكس»، أو خارجه وهو ما كشفت عنه القمة الأخيرة في جنوب أفريقيا، فإن ثمة مؤشرات مقابلة تفسر ما يجري، ويتعلق بسعي روسيا والصين والهند والبرازيل وغيرها للتعاملات التجارية وفق العملات المحلية في إطار خطوة مفصلية تسعى إلى البدء في إصدار عملة مشتركة محتملة لدول البريكس التي تمثل أكثر من 42% من سكان العالم و23% من الناتج الإجمالي العالمي، ما يشير إلى أن الأمر لن يتوقف عند تحدي استخدام الدولار في المعاملات الدولية بل استبدال النظام الاقتصادي الدولي الراهن.

مبدئيا من الصعوبة بمكان تأثر النظام الغربي الراهن – على الأقل في المدى المتوسط - جراء ما يجري إلا أن هناك توقعات بتأثر الطلب على الدولار دون أن يكون هناك تخوفات على استبداله مع التسليم بأنه سيظل وسيلة للتبادل التجاري الدولي، والملاذ الآمن للاحتياطات الأجنبية، كما سيظل أكبر عملة احتياطية في العالم وفق اتفاقية بريتون وودز التي حولته إلى عملة احتياطات دولية.

سيظل الدولار إذن مهيمناً، لأن معظم الدول في مجموعة «بريكس» ليس لديها بديل حقيقي فوري لمواجهة ما يجري في سوق النقد العالمي، فيما يرى أن العملة التي تبحث فيها بريكس قد تهدد هيمنة الدولار حيث يمكن لدولها تمويل كامل فواتير الاستيراد الخاصة بهم بعملاتها.

علماً أن هذه الدول قد حققت في عام 2022 فائضاً تجارياً بقيمة 387 مليار دولار، يمكنها أن تسددها بعملاتها الخاصة مع التقدير بأن وضعية الاحتياطي تحمي الولايات المتحدة الأميركية والمراكز المالية من مخاطر الصرف الأجنبي، كما أن المنافسة المتزايدة من العملات الأخرى قد تؤدي إلى الإضرار بالطلب على الدولار، وإن كان سيظل وحدة الحساب المركزية دولياً، ومخزناً للقيمة حيث تربط أكثر من 65 دولة عملتها بالدولار كما يسيطر على 20% من احتياطيات البنوك المركزية حول العالم.

وبالبحث عن بديل الدولار تظهر لنا عملة صاعدة، وعملات خارج النظام العالمي التقليدي، ومنها «بتكوين» والعملات الرقمية المشفرة حيث تدور هذه العملات الرقمية حول حرية تنقل رأس مال والاستثمار والتصرف في الأموال مع قلة التكاليف ورسوم المعاملات مع التأكيد أنها لا تزال عملة صاعدة، لكنها ستشكل أكبر تهديد خارجي للدولار، والعملات النقدية الحكومية.

وفي هذا الصدد تقدم «بتكوين» نفسها على أنها الذهب الرقمي، ويمكن أن تكون مكان الدولار في عصر النقود الرقمية، ومعلوم أن «بتكوين» لا تخضع لحكومة معينة فيما تشكل العملات الجديدة المطروحة مجموعة من التحديات، وما لم تتمكن البلدان من توسيع اتفاقيات مقايضة العملات بينها، ومع البلدان الأخرى أو تطوير بدائل مثل العملة الرقمية للبنك المركزي التي تتجاوز الدولار، فإن هذا التدخل غير المباشر للدولار يحد من قوة إزالته مع استمرار سيطرته على ثلاثة أخماس الصادرات الصينية إلى روسيا، حيث ما زالت البنوك الصينية لا تريد الانضمام إلى بديل سويفت.

وتواجه هيمنة الدولار على التجارة العالمية، وتدفقات الاستثمار عددًا كبيرًا من تهديدات أخرى، ومن خلال خمسة مشروعات لعملات من جميع أنحاء العالم تهدف إلى تقويض هيمنة الدولار، حيث أعلنت البرازيل والأرجنتين أنهما تستعدان لإطلاق عملة مشتركة، تسمى «جنوب»، والتي يمكن أن تصبح لاحقا مشروعاً شبيهاً باليورو تتبناه دول أميركا الجنوبية حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تآكل هيمنة الدولار بالنظر إلى أنه يشكل 96% من التجارة بين دول الأميركيتين وفقًا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.

كما تعمل روسيا وإيران على إصدار عملة مشفرة مدعومة بالذهب يمكن أن تحل محل الدولار في المدفوعات الخاصة بالتجارة الدولية مع تبني خطة لإطلاقها في منطقة اقتصادية خاصة في جنوب روسيا، والتي كانت تتعامل مع الشحنات الإيرانية، وسيتطلب ذلك تنظيم سوق الأصول الرقمية في روسيا بالكامل، وطرحت الإمارات والهند فكرة إجراء تجارة غير نفطية بالروبية، وستبني هذه الخطوة على اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بينهما، والتي تهدف إلى تعزيز التجارة باستثناء النفط بين البلدين إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2027.

وتتطلع الصين إلى إضعاف الدولار عن طريق جعل اليوان بديلاً عنه في صفقات النفط، في ضوء زيادة تجارتها مع روسيا، وبدأت الصين في شراء خام موسكو بتخفيضات كبيرة، وإتمام تلك المشتريات باليوان بدلاً من الدولار، مما أدى إلى ظهور ما يسمى «بترويوان»، في المجمل ستستمر دول بريكس تجتهد في طرح البدائل والخيارات ولو من خلال خطوات ذات دلالات رمزية للحد من الهيمنة الأميركية.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.