تعاظمت الخسائر الإنسانية والعمرانية في قطاع غزة، وامتدّ الاضطراب إلى الضفة الغربية والقدس وإلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

وما كان أحدٌ من الإسرائيليين أو الدوليين يتوقع ما حصل على الإطلاق، وتماماً مثلما كان عليه الأمر عام 2006 وما فاجأ عام 1973. وفي حين كان هناك إصرارٌ من جانب الإسرائيليين والأميركيين والأوروبيين على متابعة القتال بأي ثمن في الأسبوع الأول والثاني، تصدع هذا الإجماع الذي ما شاركت فيه المؤسسات الإنسانية العالمية والجهات الدولية الرسمية منذ الأسبوع الأول. كان منطق الجهات الإسرائيلية والأميركية الرسمية: لا ندمَ على ما فات ولننجز اليوم ما لم ننجزه من قبل رغم هول الخسائر. والمقصود بما فات لديهم ليس السلام والحلول السلمية للمشكلة التي تتعاظم وتتفاقم منذ خمسةٍ وسبعين عاماً، بل إنهاء معضلة غزة!

ومعضلة غزة تتمثل في الاستعصاء على الاحتلال، ولذا كان الحلّ الذي بادروا إليه الانسحاب من غزة عام 2005 تاركينها لمصيرها، بحيث سرعان ما ظهرت فيها دويلة عام 2007 رغم الحصار. وتلك الدويلة ظلّت تقوى ويزداد تحدّيها لإسرائيل وللسلطة الفلسطينية في رام الله، حتى وقعت المفاجأة قبل قرابة الشهر بإثارة الحرب الأخيرة ذات النتائج المفزعة على كل المستويات. المنطق الجديد نتيجة الخسائر العسكرية والسياسية والإنسانية هو «مراجعة ما فات» من أجل الإفادة من دروس الماضي الفاشلة، وأهمها اتفاقية أوسلو عام 1993.

وعلى اتفاق أوسلو كان قد تمرد الإسرائيليون ثم «الحمساويون». وما بادر يومها للاستدراك والمراجعة غير العرب من خلال مشروع الملك عبدالله بن عبد العزيز للسلام عام 2002 من بيروت، والذي لم يُصغ إليه الإسرائيليون ولا الأميركيون. الندم على ما فات أو فُوِّت ومراجعة الماضي للإفادة من دروسه هو الشعار الجديد الآن. لكنّ تلك المراجعة تبدأ من مكانٍ خاطئٍ أو ناقص إذا صحّ التعبير. فالمراجعة المقترحة تركز على الحديث عن مصائر غزة بعد حرب الإبادة: ما العمل مع الذين يبقون أحياء؟! ومن يحكمهم ويدير القطاع؟ بالطبع لا أحد من المشاركين في الحرب يريد الإبقاء على سيطرة «حماس»، لكنّ الإسرائيليين مترددون في البقاء في غزة إذا أمكن لهم ذلك. وهم يتراوحون بين الإدارة الدولية والإدارة المصرية أو الأمرين معاً. والواضح أن الأميركيين والأوروبيين ومن ورائهم إسرائيل يفكرون في التماس المساعدة العربية التي كانوا قد رفضوها عندما رفضوا خطة السلام العربية عام 2002 لاستنقاذ أوسلو. يجتمع العرب في قمةٍ بالمملكة يوم 11 نوفمبر بدعوةٍ من السلطة الفلسطينية.

وكل تصريحات مسؤوليهم بعد المطالبة بوقف النار، العودة للحل الشامل للقضية الفلسطينية فيما وراء راديكاليات حكومات الاستيطان وقتاليات الإسلامويين. والبرهان على ضرورات ذلك ما حصل في غزة بعد عام 2005، وبعد موجات القتال المتوالية عليها وحرب الحزب المسلَّح من لبنان عام 2006. فإذا كان الغربان الأوروبي والأميركي يريدان الأمن لإسرائيل، فلا وصول لذلك في المدى المنظور إلا بدولةٍ للفلسطينيين بملايينهم الستة، والتي يناضلون مع العرب من أجلها منذ عقود. الذي فات وفُوِّت تسبب بخسائر هائلة لسائر الأطراف والعودة إليه عودة إلى دروسه المؤلمة وليس إلى إنكاراته وحروبه. فلا حلّ إلاّ بالدولة، ولا حلّ إلاّ مع العرب.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية