لو كان للعلم مركز يدور حوله كما تدور الأرض حول الشمس لكانت الفيزياء مركز العلم. فلا يزال ذلك العلم المذهل قادراً على إبهارنا كل يوم، من أعماق الأرض إلى آفاق الفضاء.
كان «ارنست رذرفورد» عالم الفيزياء البريطاني الملقب بـ«أبو الفيزياء النووية» يقول: «العلم الحقيقي هو الفيزياء، وكل شيء سواه لا يعدّ سوى جمع طوابع».
لا تُعد عبارة «رذرفورد» سوى فكاهة لطيفة، أراد بها تعظيم مكانة علم الفيزياء، وتكريس هيبته التي صنعها الفيزيائيون العظام، من إسحق نيوتن إلى ألبرت أينشتاين إلى ستيفن هوكينج.
لم تعد العلوم المعاصرة تفصلها حواجز عالية أو حدود صارمة، بل صارت هناك حالة من السيولة والتداخل، جعلت من المشهد العلمي يبدو من أعلى وكأنه كتلة واحدة. فقد تداخلت فروع عديدة بين الفيزياء والكيمياء، وبينهما وبين علوم الطب والأحياء، كما أن علوم الرياضيات قد تسللت إلى الجميع وباتت حاضرة في كل الفروع.
ثمّة تداخل آخر قد يكون أكثر إثارة، وهو التداخل بين الفيزياء والفلسفة، وهو تداخل وتعاقب تاريخي جرت وقائعه على مرّ قرون طويلة، حتى إن الفيزياء كانت تسمّى لفترة طويلة بـ«الفلسفة الطبيعية».
كان أساس التداخل هو مجال السؤال لكلّ من الفلسفة والفيزياء، ما أصل الكون؟ كيف نشأ العالم؟ كيف نتطور؟ كيف نسيطر على الحياة.. أو نذهب بعيداً للبحث عن حياة؟.. ما الإنسان؟ وما الوجود؟ وما المستقبل؟ 
نقلت الفيزياء تساؤلات الفلسفة من مناقشات الحجرة إلى الكون الفسيح، ومن حوارات القاعات إلى تجارب المختبرات، ومن العصف الذهني إلى الواقع العملي، حتى بدَا الفيزيائيون وكأنهم يؤسسون لحقبة جديدة من «الفلسفة التطبيقية».
لقد نشأ من ذلك التحول من النظرية إلى التجريب - في محاولات الإجابة على تساؤلات الحياة والكون - مساران مختلفان، جاء المسار الأول مقدّراً للأصل الفلسفي للفيزياء، والامتنان بل والفخر بكوْن الفيزيائيين أحفاد الفلاسفة، وراح عدد كبير من العلماء يعود بين الفينة والأخرى إلى التاريخ القديم، فيغادر الفيزياء إلى الفلسفة، ثم يعود.
يواصل عالم الفيزياء الأميركي المعاصر «فرانك ويلكزك» ذلك المسار، فالعالم الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2004، ويعمل أستاذاً في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) نشر عام 2021 كتاباً في الفلسفة بعنوان «الأساسيات.. عشرة مفاتيح للواقع»، وفيه يشرح رؤيته للمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها وجودنا البشري، ويؤكد على أنه لا يمكن للفرد أن يكون فاعلاً في مجتمعنا المعقد من غير فهم رصين لأساسيات العلم الفيزيائي.
جاء المسار الثاني على خلاف ذلك الاتصال بين الفلسفة والفيزياء، حيث ذهب حائز نوبل الشهير ستيفن هوكينج إلى أن الفيزياء بإنجازاتها العملاقة قد تجاوزت الفلسفة وأطروحاتها، وأيد مقولة «موت الفلسفة».
يحمل القسم الأول من كتاب «فرانك ويلكزك» عنوان: «ما الذي يوجد هناك؟»، ويجيب على ذلك بقوله: هناك الكثير من الفضاء والقليل من القوانين.
إذا كان ممكناً أن نطرح تصوراً تبسيطياً لمجمل ذلك النقاش المثير.. فإنّ الفلسفة قد يكون عليها الإجابة على سؤال: ما الذي يوجد هنا؟. بينما يكون على الفيزياء أن تجيب على سؤال: ما الذي يوجد هناك؟
* كاتب مصري