هناك نوعان للفوز، أحدهما الفوز بالتغالب، وهذا يورث الصدامات، لأن البشر لا يمكن أن يكونوا فائزين دوماً، ولو ظل الواحد يفوز دوماً لماجهد للفوز. وهناك الفوز بمعنى التنافس، وهذا يقتضي التسليم سلفاً بأن الفوز ليس دوماً، وأن الخسارة واردةٌ ومن يخسر مرةً أومرات فسيفوز في أخريات، وهنا تكون الخسارة أمرأ واقعياً لو حدثت، ولن تؤدي إلى إحباط ولا توتر ولا يأس.
أما الفوز تحت معنى التغالب وضرورة الغلبة كمطلب مقدم، فهو يحدث ردود فعل غاضبة نراها في مجال كرة القدم عبر أفعال مثل إقالة المدربين، والسخط على اللاعبين، وحدوث منابزات بين جماهير المغلوب والغالب. وقد وقعت حرب ضروس في أميركا الجنوبية بين دولتين بسبب هزيمة مباراة كرة قدم، وتكثر القصص عن جماهير تصاب بالاكتئاب والتوتر. وهذه كلها معانٍ سلبية يصنعها الإصرار على تحويل التنافس إلى التغالب، ومن ثم التحارب، على أن متعة اللعب هي في كفاءة الأداء وبناء الخبرة، وترويض النفس على نظرية التنافس مع تقبل الخسارة بما أن الخسارة شرط عضوي مثله مثل الكسب، وهذان هما قانون التنافس ومعناه وجدواه، وهي القيمة الإمتاعية للرياضة. والغالب أن الرياضة في زمننا قد أصبحت ثقافة بصرية تمتد أمداؤها إلى أرجاء المعمورة كافة، ومزية الصورة البصرية أنها تتحول إلى صور ذهنية للمهارة والإتقان وفروسية الأخلاق وإيجابية التفاعل.ولكن الوقائع الماثلة للرياضة عالمياً تشير إلى معانٍ سلبية لتحرف مفهوم التنافس إلى مفهوم التغالب، ويصبح الفوز وحده هدفاً حصرياً، ويجري الحكم فقط على ما تم تسجيله من أهداف في مرمى الطرف الآخر الذي يشار إليه في هذه الحالة بأنه الخصم وليس المنافس، ما يجعل اللعبة نوعاً من الحرب الباردة ليس بين فريقين فحسب، بل هي حروب بين شعوب أو جماهير، ويتبعها سلبيات اللعبة في قوانينها غير العادلة وغير المنطقية لدرجة وضع أجهزة تساعد على العدالة من حيث الظن أن الصورة لا تكذب، ولكن يحدث كثيراً أن قراءة الصورة وتحليل حركات الصورة هي التي تظلم لأن هذه من فعل البشر الذين سيتكلمون باسم الصورة، وهنا تختلط الرغبات العميقة لقانون التغالب، وهذا ينتج توترات بين جماهير الفرق مثلما بين الشعوب.وفي كأس العالم الأخير (2022) جهزت فرنسا عشرة آلاف جندي لضبط الأمن في شوارع باريس، تخوفاً من ردود الفعل بعد إحدى مباريات المنتخب الفرنسي الحاسمة، وهذه حالة تشير إلى توقع حال الغضب والعنف، ما يجعل ذلك حالة ثقافية وذهنية متجذرة، وكأن البشر استعاضوا عن الحرب الفعلية بحروب بديلة جعلت الرياضة نفسها حرباً معلنةً ومتوقعة معاً، وهنا لن تكون الرياضة متعةً بمقدار ما هي عنفٌ نفسي وتوتر عاطفي ينتهي بصدامات اشتهرت بها شوارع أوروبا، وجرى في فترة أن اتخذت دولٌ أوروبية قراراً بمنع الجماهير الإنجليزية من حضور أي مبارات مع النوادي الأوروبية بسبب العنف الذي يتلو حالات الفوز وحالات الخسارة معاً، ما جعل الرياضة مسرحاً للتعبير عن المكنون المختزن في النفوس، ويبحث له عن أي سبب لكي ينفجر، وهذه واحدة من النهايات التعيسة للحضارة البشرية، مذ تكشف عجز البشرية عن تحقيق المعاني الكبرى رغم قدراتهم الهائلة على إنتاج المعاني، غير أن إنتاجهم للعنف يفوق إنتاجهم للمعاني.
*كاتب ومفكر سعودي- أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض