لعل أكثر ما يثير الدهشة في زيارة «تاكر كارلسون» الأخيرة إلى روسيا ليس هو مقابلته مع فلاديمير بوتين، وإنما حديثه الطويل عقب تلك الزيارة حول مدى روعة موسكو. وعلى كل حال، فأثناء قيام كارلسون بالثناء على موسكو، انتقد المدن الأميركية بشدة، وخاصة نيويورك التي قال عنها: «إنك لا تستطيع استخدام ميترو الأنفاق فيها»، لأنه خطير جداً».

والحقيقة أن هناك بعض سكان نيويورك الذين يخشون ركوب مترو الأنفاق بالفعل، غير أن الحقيقة أيضاً هي أنه كان هناك حوالي 1.7 مليار راكب يركبون مترو الأنفاق في نيويورك كل عام قبل الوباء، إنني أستقلُ مترو الأنفاق دائماً، وقد بدأ ركوبُ المترو يستعيد عافيته بسرعة، وإنْ ما زال دون مستوياته السابقة بسبب زيادة العمل من البيت. وبالطبع، فمن الممكن أن كارلسون لم يركب مترو أنفاق نيويورك أبداً، أو على الأقل لم يركبه منذ الأيام التي كان فيها عدد جرائم القتل في نيويورك يعادل ستة أضعاف عددها الحالي.

وهو في ذلك قد يكون مثل دونالد ترامب، الذي ربما لم يسافر في طائرة تجارية منذ عقود، إذ قال قبل بضعة أيام إن المطارات الأميركية، التي تعاني من طوابير طويلة ومزعجة عند شباك الأمن، ولكنها باتت تتوافر على وسائل راحة أكثر بكثير من ذي قبل، تجعلنا نبدو وكأننا «بلد من العالم الثالث». ثم إنه رغم أن محطات مترو الأنفاق في نيويورك لا تحتوي على ثريات مثل تلك الموجودة في موسكو، وتوجد فيها جرذان في بعض الأحيان، فإن النظام فعّال يؤدي وظيفته، ويلعب دوراً إيجابياً جداً في حياة المدينة. ولكن اليمينيين، بشكل عام، يبدون متشبثين بقناعتهم بأن نيويورك عبارة عن جحيم حضري ،22 في المئة فقط من «الجمهوريين» يعتبرونها مكاناً آمناً للعيش فيه أو زيارته، مع أنها واحدة من أكثر المدن أماناً في أميركا.

واللافت أن هناك تفاوتاً صارخاً، بشكل عام، بين تصورات الأميركيين للجريمة في الأماكن التي يعيشون فيها، عدد قليل نسبياً من الطرفين يعتبرها مشكلة خطيرة، وتقييماتهم الأكثر تشاؤماً للبلاد بشكل عام. وهذا التفاوت موجود لدى كلا الحزبين، ولكنه أكبر بكثير عند «الجمهوريين». وهذا جزء من ظاهرة أوسع. فقد أصبحت أميركا بلداً يعتبر فيه كثير من الناس، وخاصة من اليمين السياسي، أن تصدّق هو أن ترى، إذ باتت التصورات بشأن قضايا مختلفة، من الهجرة إلى الجريمة إلى حالة الاقتصاد، تخضع للمواقف السياسية، وليس العكس.

ولنأخذ هنا على سبيل المثال موضوعاً كتبتُ عنه مطولاً: فخلال سنوات بايدن، كانت معظم المقاييس التي تقيس آراء المستهلكين دون ما قد يتوقعه المرء، بالنظر إلى المقاييس المعيارية التي تقيس أداء الاقتصاد. وهذا لا يزال صحيحاً، وإن كانت الآراء قد تحسّنت بشكل جوهري في الأشهر القليلة الماضية. واليوم، هناك نوع كامل من التحليلات التي تذهب إلى أن الناس على حق حين يعبّرون عن رأي سلبي بخصوص الاقتصاد بسبب شيء أو آخر. ولذلك، إليك هذه النصيحة المهمة: تجاهل أي شخص يقول إن الأميركيين لديهم رأي سلبي حول الاقتصاد من دون الإشارة إلى أن الواقع هو أن «الجمهوريين» لديهم رأي سلبي بخصوص الاقتصاد.

لقد كتبتُ حول هذا الموضوع الأسبوع الماضي، ولكن اسمحوا لي أن أوضح هذه النقطة من جديد باستخدام بيانات مختلفة قليلاً. «استطلاع ميشيغان للمستهلكين» الذي كثيراً ما يُستشهد به يوفّر بيانات حول آراء الأميركيين مقسّمة حسب انتماءاتهم الحزبية، رغم أنه لم يصبح مرجعاً شهرياً منتظماً سوى في 2017، ولكنني أفضّلُ التركيز على «مؤشر الظروف الاقتصادية الحالية»، لأن الناس قد تكون لديهم توقعات مختلفة، اعتماداً على الحزب الذي يسيّر شؤون البلاد. فـ«الديمقراطيون» يبدو أنهم يشعرون بأن حالة الاقتصاد الآن جيدة على غرار ما كانت عليه في أواخر 2019، وهو ما قد يتوقعه المرء في الواقع بالنظر إلى أن معدل البطالة الحالي هو نفسه تقريباً الذي كان مسجلاً في 2019 وأن التضخم لم يرتفع سوى بشكل طفيف، مقارنة مع تلك السنة.

وعلى النقيض من ذلك، فإن «الجمهوريين» انتقلوا من النشوة والشعور الإيجابي بشأن الاقتصاد في عهد ترامب إلى رأي متحيز جداً في عهد الرئيس جو بايدن. ماذا عن المستقلين؟ الواقع أنهم يميلون في الغالب نحو هذا الحزب أو ذاك، ويتصرفون مثل المتحزبين. هذه المقارنة لا تثبت أن التصورات السلبية للاقتصاد تتعلق كلها بالتعصب الحزبي، فربما تكون الأمور سيئة حقاً، أو إلى حد ما، وأن التعصب الحزبي «الديمقراطي» يُبقي الأرقام مرتفعة، وإن كان«الديمقراطيون» يبدو أنهم لا يخضعون لتقلبات مزاجية من النوع الذي يخضع له «الجمهوريون» عندما يتغير ساكن البيت الأبيض، غير أن أي نقاش حول آراء الأميركيين بشأن الاقتصاد لا يأخذ الانتماء الحزبي في عين الاعتبار يُغفل جزءاً رئيساً من القصة.

ومثلما كتبتُ الأسبوع الماضي، فإن طبيعة الرأي العام التي تقوم على «أن تصدّق هو أن ترى» قد تعني أن تصورات الاقتصاد، وربما الجريمة، لن تكون لها أهمية كبيرة في انتخابات هذا العام، لأن الأميركيين الذين يعتقدون أن الأمور سيئة ربما ما كانوا ليصوّتوا للديمقراطيين في جميع الأحوال، ولكن لسائل أن يتساءل: كيف لنا أن نشتغل كبلد على المدى الطويل حينما ترى أعداد كبيرة من الناس واقعاً مختلفاً عن بقية البلاد؟

*كاتب وأكاديمي حائز جائزة نوبل في الاقتصاد.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»