لو أن موهبة امرئ القيس انتقلتْ من الشعر إلى السياسة، لشهدَ تاريخ الجزيرة العربية مولد رجل دولة من طراز فريد.
لم يصبح «الملك» امرؤ القيس ذلك السياسي الذي تحيي مناقبه الأجيال، بل أصبح ذلك الشاعر الذي عاش (40) عاماً، ليعيش بعدها (1500) عام أخرى.
ولد أمير الشعراء العرب قبل الإسلام.. في نحو عام (500) ميلادية، وهو نجم الجيل الخامس من العائلة التي حكمت أسد وغطفان، بعد جده الأكبر «حُجر» ثم «عمرو» ثم «الحرث» ثم «حُجر» ثم «امرؤ القيس»، وكانت والدته هى الأخرى من أسرة رفيعة الشأن، فقد كان خاله «المهلهل» شاعراً كبيراً، وهو الذي سار امرؤ القيس على دربه، وكان خاله الآخر «كليب» ملكاً على تغلب.
اختار امرؤ القيس أن يكون شاعراً منفلتاً، صادِماً لمجتمعه، حتى أن والده نفاه إلى مسقط رأس العائلة في اليمن لعلّه يغادر شعر الغزل، ويترك حياة السفه والمجون.
لم يعتدل امرؤ القيس في منفاه التأديبي، بل أسّس «شلّة» من أراذِل الشباب، ليهيموا على وجوههم، فإذا ما وجدوا ماءً تحلقوا حوله، حتى إذا ما جفّ غادروه. ولم يكن لديهم ما يفعلون سوى حياتهم البوهيمية.
كانت ثروة عائلته تسمح له بهذه الحركة الواسعة، وكانت الثروة أيضاً ما جذبت إليه الندماء ورفاق السفر، كما كانت شهرته كشاعر هي ما جعلت منه أكثر من مجرد شاب ثري ابن عائلة ثرية.
ثارت القبائل على والد امرئ القيس وقتلته، وقبل موته أعدّ وصيةً لأبنائه، لم يجد حامل الوصية من إخوة امرئ القيس ما أراده والدهم، ولمّا وصل إليه كان يلعب النرد، فأخبره بقتل والده، فقال انتظر حتى أفرغ من اللعب!
خاض امرؤ القيس بعض المعارك، ثم راح يستنصر بملك الروم. وقد استقبله الملك ووافق على دعمه، لكن قصائد كتبها امرؤ القيس في ابنة ملك الروم، وحديث الوشاة عمّا قال بشأنها، جعلت ملك الروم يقوم بقتله عبْر ناجٍ مسمّم أرسله له.. ودُفن في أنقرة.
كانت رحلة الشاعر الملك من حضرموت إلى الأناضول دراما مذهلة، فيها الحبّ والحرب، وفيها اغتيال الوالد ولقاء القيصر وموت الشاعر وسقوط الحلم. كان امرؤ القيس الذي قال عنه الفرزدق إنه أشعر العرب.. شاعراً  يهين من يحبُّ في غزله الصريح، ولكنه حين استعد للموت في أنقرة راح ينعى فشله الرومانسي وإخفاقه العاطفي، وتكراره الخطأ تلو الآخر.
ترك لنا امرؤ القيس شعراً مدهشاً، ومعلقات مذهلة، ولاتزال بعض أشعاره «ذائعة الصيت» إلى اليوم. هو صاحب: «قِفَا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ/ بِسِقطِ اللوى بين الدخول فَحَوْمَلِ». وهو صاحب: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى/ بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل. فيالكَ من ليلٍ كان نجومَه بكل مُغار الفَتْلِ شُدّت بيَذْبلِ».
في مشهد الختام في أنقرة رأى امرؤ القيس قبراً لأميرة رومية دُفنت في جبل عسيب.. فأنشد يقول: أجارتنا إن الخطوبَ تنوب/ وإنني مقيمٌ ما أقام عسيب. أجارتنا إنّا غريبان هاهنا/ وكل غريبٍ للغريبِ نسيب.
*كاتب مصري