اعتدت في مراحل التحول حيث يختلط الديني بالقومي والمحلي، التركيز على تجديد أو تغيير الخطاب الديني. وكان يدفعني لذلك أمران: وقائع الخطاب وإعلاناته حيث يجري استخدام العواطف الدينية، وكون المسائل الدينية يسهل استخدامها واستعجال تأثيرها وإثارتها لدى العامة وبخاصةٍ في قضايا مثل الأقصى والقدس والقضية الفلسطينية بعامة. ومنذ الأيام الأولى لحرب غزة الحالية، والتي سماها صانعوها «طوفان الأقصى»، جرى استخدام الشعارات الدينية بكثافة. وهي تنقسم إلى قسمين: النداءات والأدعية والتعاويذ التقليدية والتي تثير كبار السن من النساء والرجال، والشعارات الحزبية التي تستنهض الهمم من أجل الكفاح!

والقسم الثاني هذا هو الأشد ضرراً لأنه تحشيدي ويتحول إلى انتحاري. ثم إنّ هذا الخطاب يتعدى إلى السياقات والحكومات من أجل نشر الفوضى بنموذج «عليّ وعلى أعدائي»! وقد استُهدِف الأردن بهذا الخطاب لعدة دوافع: دافع التحريض على السلطات، ودافع الرفع من شعبية المناضلين ومعنوياتهم، ودافع استغلال الأحداث الجارية لتحقيق الشعبية والنفوذ.. فضلاً عما يكون للخارج من تأثيرات. بيد أنّ الأمر تجاوز هذه المرة الإسلامويات (على خطورتها) إلى الشعبويات، فهناك مَن يطلب من الجمهور العريض الاستمرار في التظاهر وعدم الخروج من الشارع! وهذا بالطبع لا يفيد فلسطين ولا غزة، لكنّ المطلوب الإساءة إلى الأمن الوطني ونشر الفوضى. خطاب التطرف وخطاب الشعبويات كلاهما مضر بالدين وبالدولة. وقد كانت لهذا الخطاب نتائج مريعة على غزة بالذات.

فهذه هي الحرب الرابعة أو الخامسة، وهي أفظعها ولا شك. وقد سقط في الحروب السابقة ألوفٌ مؤلفة أيضاً، وتهدم عمرانٌ كبير وكثير، وتعذب الأطفال بالجوع وفُقد الأمن والصحة والتعليم. فالنداءات التي يثيرها قادة «حماس» من الخارج ليست حسنة النية، وليست هي المطلوب في هذه المناسبة. فهي تشجيع على المذبحة ومثيرة للكآبة والإحباط لدى المقيمين خارج فلسطين، وتورط الفلسطينيين الفتيان وتقودهم نحو الموت. في الأزمنة الحديثة التي حفلت بالأزمات في منطقة الشرق الأوسط بالذات، تكونت تياراتٌ سياسية تعودت على استخدام الدين في القضايا العامة، وهي تقصد من وراء ذلك المصير إلى نفوذٍ أوسع. بينما هي في الحقيقة ومع توالي العقود أحدثت انشقاقاتٍ في الدين بتشويه المفاهيم وتحريض الناس بعضهم على بعض، والإساءة إلى سمعة الإسلام واعتباره ديناً عنيفاً كما صار شائعاً في العالم! الثوران الديني الحالي يجدد ذكريات سيئة من العقود الأخيرة التي عانت فيها دولنا من الخطاب الأصولي وخطاب الإسلام السياسي. ووصل الأمر الآن إلى تقصّد نشر الفوضى عبر الخطاب الشعبوي، حيث يختلط الدين بالقومية.

ومن الطريف، ومما يدل على تقصد التخريب والإضرار بالنظام العام، الدعوة إلى البقاء في الشارع لمديات متطاولة، مع ما يُحدثُه ذلك من فوضى واضطراب وإثارة السخط ضد السلطات بحجة أنها لا تقوم بما فيه الكفاية من أجل غزة! وهذا كله ونحن نفترض أن «الثائرين الأشاوس» يريدون استحداث شعبيةٍ لهم، لكنّ الأمر قد يتجاوز ذلك إلى التآمر على الأمن الداخلي من جانب دولٍ وتنظيماتٍ تستهدف الاستقرار وتسعى لتخريبه. وقد يكون ذلك هو الذي يحدث الآن وليس في الأردن فقط. إنّ المطلوب بالأحرى تغيير الخطاب الديني وليس تجديده. التجديد يكون في مجال فتح الآفاق، واستثمار الخطاب القيمي القرآني من أجل التواصل والتعارف والتعايش والسلام. أما في السياقات الحادثة الآن بسبب الحرب؛ فإنّ الخطابين الإسلاموي والشعبوي صارا منذ عقودٍ للإثارة والإساءة لأمن الأوطان والمواطنين، وهما لا يقدمان شيئاً محسوساً ومفيداً في حفظ الأرواح أو الاستقرار أو العمران. ولذا فإنّ هذين الخطابين ذوي البنية المتقاربة صارا معادين ومكرورين.. صحيح أنّ جاذبيتهما قلّت لحسن الحظ، لكن لا بد من عملٍ ديني وثقافي وتثقيفي جادّ للخلاص من أضرارهما على أمن المجتمعات واستقرارها.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية