منذ تم التوصل إلى أول اتفاق للهدنة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة، في نوفمبر الماضي، تعثرت كافة الجهود الساعية للتوصل لهدنة ثانية، وكان السبب الواضح لهذا التعثر هو التضارب التام بي أهداف طرفي المواجهة، إذ تطالب الفصائل بوقف نهائي لإطلاق النار وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية وعودة النازحين وإعادة الإعمار، وهو مطلب يعني الهزيمة لإسرائيل فيما لم تحدث هذه الهزيمة على أرض الواقع. صحيح أن الهدفين الاستراتيجيين لإسرائيل، وهما تحرير الأسرى والرهائن واجتثاث الجماعات المسلحة، لم يتحققا، لكن الإصرار على تحقيقهما مازال قائماً، وهو إصرار مبني على ما تملكه إسرائيل من قوة عسكرية ودعم من حلفائها. ومن ناحية إسرائيل كان واضحاً أن تكتيكها التفاوضي يقوم على تحرير الأسرى والرهائن دون الالتزام بوقف دائم لإطلاق النار، وهو ما لا يعني سوى تحريرهم ثم استئناف القتال لاستكمال التخلص نهائياً من الفصائل. ولم يكن متوقعاً من هذه الأخيرة أن تقبل بهكذا حصيلة للتفاوض فيما هي ما زالت موجودة على الأرض، حتى وإن بوتيرة أقل تكراراً وتأثيراً. غير أنه وفقاً لتحليل النظم system analysis فإن الديناميات التي تنطوي عليها التفاعلات داخل نظام ما system dynamics لابد وأن تفضي إلى تغييرات ما، وهو ما يبدو أنه يحدث الآن في الجولة الحالية من المفاوضات.
لقد أحدث استمرار المواجهات وضراوة الهجوم الإسرائيلي ما نعرفه جميعاً من ضحايا بشرية وتدمير هائل وتداعيات إنسانية كارثية.. وأدى هذا كله إلى تحولات حقيقية في الرأي العام الدولي وصلت إلى الولايات المتحدة ذاتها، وآخر تجلياتها الحركة الراهنة لطلاب نخبة الجامعات الأميركية، والتي امتدت لبلدان أخرى كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأستراليا وغيرها. ولعله من أهم سمات هذه التحولات أن قطاعاً من اليهود (غير الصهاينة) يشارك فيها. وصحيح أن هذه التحولات لم تصل بعد لدرجة التأثير على القرارات السياسية في بلدانها، لكنها بالتأكيد ليست بلا تأثير، خاصة أن الرئيس الأميركي مقبل على انتخابات رئاسية مهدد فيها بفقدان منصبه إذا استمرت الاحتجاجات الشعبية في التصاعد، علماً بأن استطلاعات الرأي حتى الآن ليست في صالحه.
ومن ناحية أخرى فإن الضغوط الدولية كافة تتصاعد، وقد وجدت لها ترجمةً قانونيةً في الأوامر التي أصدرتها محكمة العدل الدولية لإسرائيل بناءً على الدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا، وما يشير إليه بعض التقارير من احتمال إصدار المحكمة الجنائية الدولية قرارات اعتقال بحق قادة ومسؤولين إسرائيليين. وقد يكون الأهم من ذلك كله أن فشل إسرائيل حتى الآن في تحقيق هدفيها الأساسيين في الحرب، وتصاعد غضب أسر الأسرى والرهائن، والانقسام الداخلي الراهن سياسياً وعسكرياً.. كلها عوامل تزيد الضغوط على القيادة الإسرائيلية. وعلى الجانب الفلسطيني لا شك في أن الخسائر البشرية والمادية الهائلة جراء حرب لا يلوح لها حل قريب في الأفق، تمثل بدورها ضغطاً في اتجاه إبداء المرونة.
ويعني ما سبق أن الضغوط تتزايد على الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، مما يفتح الباب للأمل في نجاح الجولة الحالية للمفاوضات، على أن يكون واضحاً أن أعلى سقف لهذا النجاح سوف يكون التوصل لاتفاق مرحلي جديد يفتح الباب لمزيد من التفاعلات التي قد تفضي لإنهاء المواجهة الحالية، وهذا حديث آخر.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة