يلقى كل عام قرابة الـ800 ألف شخص حتفهم انتحاراً، ويحاول أضعاف هذا العدد أيضاً قتل نفسهم، ولحسن الحظ لا تتحقق لهم غايتهم. هذه المأساة لا تترك وقعها فقط على الضحايا، بل تمتد تبعاتها لتشمل أسرهم وعائلاتهم، ومجتمعاتهم، ودولهم بأكملها، وهي التبعات التي تستمر آثارها لفترة طويلة. ورغم أن الانتحار يقع خلال جميع مراحل العمر، فإن معظم ضحاياه يكونون ما بين عمر الخامسة عشرة والتاسعة والعشرين، وهو ما يجعل الانتحار السبب الثاني على قائمة أسباب الوفيات بين أفراد هذه الطائفة العمرية على مستوى العالم.
وعلى عكس الاعتقاد الشائع والخاطئ، لا تقتصر مأساة الانتحار على شعوب الدول الغنية، بل هي في الحقيقة ظاهرة عالمية، لا تستثني أياً من مناطق العالم، وتتأثر بها شعوب الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل بدرجة أكبر، حيث تقع حالياً 79 في المئة من حالات الانتحار السنوية بين شعوب هذه الدول.
وأمام هذا العدد الضخم من الضحايا السنوية، وأضعافهم من المحاولات الفاشلة، يشكل الانتحار مشكلة صحة عامة كبرى، رغم كونها مشكلة ممكن تحقيق الوقاية منها بناء على الأدلة والدراسات والأبحاث، ومن خلال إجراءات وتدابير محددة، منخفضة التكلفة، والتي يجب أن تفعل وتنفذ في الوقت المناسب، ضمن استراتيجية وطنية شاملة، تأخذ في الاعتبار الأوجه المتعددة للانتحار، وتتفهم بشكل كامل العوامل المختلفة التي تدفع بمئات الآلاف لقتل أنفسهم كل عام.
ورغم أن الرابط والعلاقة بين الانتحار وبين الاضطرابات العقلية، وخصوصاً الاكتئاب وإدمان الكحوليات، هي علاقة واضحة وثابتة في الدول الغنية، فإن الكثير من حالات الانتحار يقع بشكل اندفاعي في لحظات من التهور، نتيجة أزمة عارضة طارئة، تتميز بانهيار قدرة المرء على التعامل مع الضغوطات النفسية التي تنتج عن الأزمات المالية الطاحنة، أو انهيار العلاقات الأسرية، أو الآلام المزمنة والأمراض المستعصية.
وبخلاف الظروف الشخصية الفردية، أحياناً ما تدفع الظروف المجتمعية والعوامل المحيطة بأفراد مجموعة أو مجتمع بأكمله إلى الانتحار، مثل الظروف التي يحياها الأفراد خلال الحروب والصراعات المسلحة، أو الكوارث الطبيعية والصناعية، أو التعرض للعنف الدائم وسوء المعاملة المزمن، أو الشعور بالضياع والفقدان والعزلة، وهي ظروف معروف عنها ارتباطاها الوثيقة بزيادة معدلات الانتحار.
وترتفع أيضاً معدلات الانتحار بين المجموعات والطوائف المجتمعية التي تتعرض للتميز السلبي والتفرقة، مثل اللاجئين، والمهاجرين، والمستوطنين الأصليين، والشواذ جنسياً، وبين المسجونين لفترات سجن طويلة.    
ورغم أن وقوع محاولة انتحار فاشلة سابقاً، يعتبر أهم عوامل الخطر لتكرار المحاولة مرة أخرى، فإنه توجد علامات خطر أخرى، لا بد وأن تثير القلق وتستدعي التدخل المبكر. مثل تهديد الشخص بأن يقتل نفسه، أو التخلص من مقتنياته الثمينة ومتعلقاته الشخصية فجأة ودون سبب واضح، أو التصريح بأنه إذا ما مات فلن يفتقده أحد، أو البحث والانغماس في وسائل وسبل قتل النفس – على الإنترنت مثلاً- ومحاولة الحصول على وحيازة هذه الوسائل، كالمبيدات الحشرية، أو الأسلحة النارية، أو الأدوية والعقاقير الخطيرة والقاتلة.
وتحتل حالياً المبيدات الحشرية رأس قائمة سبل الانتحار الأكثر انتشاراً، حيث تعتبر الوسيلة المفضلة في 20 في المئة من حالات الانتحار الناجحة، وخصوصاً في المناطق الريفية والزراعية في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، ويليها في الانتشار: شنق النفس، والأسلحة النارية. ويعتبر من المهم معرفة سبل الانتحار الشائعة، والمتوفر منها للشخص محل الاشتباه، كي تتخذ التدابير والإجراءات التي يمكن أن تكون فاعلة في منع محاولة الانتحار والوقاية منها.
وبخلاف زيادة صعوبة الحصول على وسائل الانتحار الشائعة، والتعرف المبكر على الأشخاص المعرضين لهذه المأساة، وتوفير العلاج والرعاية للمصابين باضطرابات نفسية وعقلية، وللمدمنين على الكحوليات أو المخدرات، وتوفير العلاج للمصابين بآلام مزمنة، والدعم النفسي والاجتماعي لمن يمرون بمراحل عصيبة في حياتهم الشخصية والمالية، يعتبر من الضروري توفير التدريب غير التخصص لجميع أفراد الطاقم الطبي، لتقييم والتعرف على علامات وعوامل الخطر لأفراد المجتمع، وخصوصاً من يتلقون منهم رعاية طبية في إحدى المنشآت الصحية.
وغني عن الذكر هنا، ضرورة استمرار توفير الدعم والرعاية للأشخاص الذين حاولوا الانتحار مسبقاً، ودمجهم ضمن نظام مراقبة ودعم مجتمعي. كما أنه من الضروري أن تتعامل وسائل الإعلام مع حالات الانتحار الناجحة بنضج ومسؤولية، والبعد عن أساليب الإثارة والتشويق الرخيصة، وهو للأسف ما قد يثير فضول البعض وخصوصاً المراهقين، ويدفعهم في لحظة طيش للتقليد والمحاكاة.