لم يحدث من قبل أن تحكّم عنصر الهزل في السياسات العالمية، كأنّ الشرق والغرب يخوضان سباق تسلح في الهزل. فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية نكتة لا يصدّقها البعض حتى الآن، وأبعد منها عن التصديق تحقيقه، رغم اتهامه بالتواطؤ مع روسيا، نجاحات اقتصادية بسياسات ارتجالية. وإذا بدا أن الرئيس الأميركي قد حقق منفرداً بنفسه السبق لنفسه، فالرئيس الروسي حققه مع الروس وبالروس. في «منتدى الشرق الاقتصادي» في «فلاديفستوك»، مطلع الشهر الجاري، فاجأ بوتين القمة التي حضرها زعماء آسيا، وبينهم زعيما الصين واليابان، بالحديث عن براءة الروسيين اللذين اتهمتهما بريطانيا بتسميم الجاسوس السابق «سكريبال»، ودعاهما للتحدث إلى الإعلام الروسي.
وإذا اتخذنا موقفاً جدياً مما يحدث، يفوتنا الضحك والحقيقة معاً. ويفوت هذا لندن، وتحظى به موسكو، حيث ظهر المتهمان «بتروف» و«بوشيروف» في مقابلة مع رئيسة تحرير التلفزيون الروسي «آر تي»، وذكرا أنهما سائحان مهتمان بساعة قديمة في مدينة «سالزبوري» يعود تاريخها إلى القرن الـ17 الميلادي، وصادفت زيارتهما «سالزبوري» يوم تسمم «سكريبال»، وتساقطُ الثلوج سبب مغادرتهما في اليوم نفسه. واعتبر محرر «بي بي سي» الدبلوماسي المقابلة «إحدى أكبر تهويشات حرب المعلومات»، لكن الحكومة البريطانية قالت: «إنها إهانة للإدراك العام»، فيما اعتبره معلقون بريطانيون ساخرون مشهداً من المسلسل البريطاني الهزلي العابث «مونتي بيثون».
واضحك تضحك لك الدنيا مع الروس، في «برنامج 60 دقيقة» في فضائية «روسيا 24» الأسبوع الماضي. ولم يقتصر الهزل والمرح والقهقهات في هذا البرنامج على جمهور مشاهديه الحاضرين في الاستوديو، بل شمل المشاركين فيه، ومراسليه داخل روسيا وخارجها. ولولا أنه يتابع أحداثاً مباشرة لبدا تمثيلية خفيفة الظل أكثر حيوية من مسلسلات بوليسية أميركية مشهورة، مثل «قصص بوليسية حقيقية». خفة حركة الكاميرا وإيماءات المشاركين في البرنامج، وبينهم خبراء بالأسلحة الشاملة كشفوا معلومات خطيرة عن أكبر مختبر للأسلحة البيولوجية، بلغت تكلفة بنائه 500 مليون دولار. وأقيم المختبر في جمهورية جورجيا، وهناك مختبرات أخرى في «كازاخستان»، و«أوزبكستان»، و«أبخازيا»، ومختبر مخطط لإنشائه في أوكرانيا، وجميعها تمولها وزارة الدفاع الأميركية، ولا يُسمح لغير الأميركيين بدخول القسم السري فيها. وأول الهزل أن تكون أسرار هذه المختبرات مكشوفة للروس، بما فيها مختبر جورجيا التي أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مركز النشاطات المعادية لروسيا. وبرّر مراسل البرنامج دخوله المختبر بأن حكومة جورجيا الحالية تريد التبرؤ من المشروع الذي أقامته الحكومة السابقة.
ومن يتورط بإيواء الأسلحة البيولوجية الأصعب على التحكم من الكيماوية والنووية، حسب خبير روسي تحدث في البرنامج عن مساهمته في بناء مختبر جورجيا، وذكر أنه مصدر «فايروسات» عدة أصابت البشر والحيوان والنباتات. وقال إن وباء «طاعون الخنازير» المعروف في أفريقيا، طوّره مختبر عسكري أميركي، وقد قتل 60 شخصاً في أميركا عند تسربه خارج المختبر. وعرض البرنامج لقطات تصور بعوضاً يُستخدم كسلاح بيولوجي يُشحنُ بفيروسات فتاكة، ويطلق في المنطقة المراد إصابتها. والهدف الرئيس لهذه الأسلحة روسيا، حسب خرائط عرضها البرنامج، حيث ذكر أحد المشاركين أن تسمم الجاسوس الروسي «سكريبال» مقدمة لاستخدام هذا السلاح ضد روسيا. وردُّ فعل الجمهور الروسي الضاحك أكثر إثارة للاستغراب من تطورات موضوع تسميم «سكريبال».
ولرؤية ما يحدث «لا يمكن الاعتماد على عينيك، إذا كانت بؤرة خيالك مشوشة»، حسب الكاتب الأميركي الهزلي «مارك توين». وتشوش بؤرة خيال لندن وواشنطن يحول دون إدراك ما أعلنه في «مجلس اللوردات» قبل نصف قرن «المارشال مونتغومري»، أحد أشهر القادة العسكريين البريطانيين: القاعدة الأولى في الصفحة الأولى من كتاب الحرب، هي «لا تزحف على موسكو»، والقاعدة الثانية، هي «لا تشنّ حرباً على الصين».