كانت البشرية تخشى وقوع كارثة إنسانية كبرى في إدلب، وكان الموعد المتوقع لبدء هجوم يشارك فيه نظام الأسد وروسيا وإيران هو شهر سبتمبر الحالي، ليعلن النظام انتصاراً كاسحاً، وليعاقب الشعب السوري الثائر ضده، وبخاصة أولئك الذين رفضوا الاستسلام له تحت لافتة (المصالحات) وفضلوا التهجير القسري إلى إدلب، التي تجمّع فيها مئات الآلاف من المعارضين العسكريين والمدنيين، وقد أجل النظام موعد تصفيتهم حتى ينتهي من الغوطة وريف حمص وحوران، وقد بدأ الإعداد لاجتياح إدلب في شهر يوليو الماضي، وكان ذلك إيذاناً بمواجهة عسكرية تحتاج إلى تدخل روسي وإيراني كبير لأن النظام بقواه العسكرية المنهكة لا يستطيع الاقتراب من إدلب في حرب مواجهة، لكنه يعتمد على سياسة الأرض المحروقة التي اعتمدها الروس في إسقاط كل المناطق التي عاد إليها النظام منتصراً بفضل همجية القصف الجوي.
ولم تظهر حماسة إيران لاقتحام إدلب في قمة طهران التي عقدت في السابع من سبتمبر الحالي، فالإيرانيون يعرفون أن الروس سيشاركون بالصواريخ والطائرات فقط، وأن عليهم هم أن يواجهوا في الحرب البرية، وهم يدركون أنها لن تكون حرباً سهلة، وهم يعرفون أن حجم قوات النظام لا يكفي للسيطرة على الأرض التي تضاهي مساحة لبنان. والروس يدركون أن حرب إدلب ستكون مكلفة جداً في عدد الضحايا من المدنيين، فالقصف الجوي لا يفرق بين مدني وعسكري، ولا بين معتدل وإرهابي، ويبدو أن الروس وهم يقتربون من نهاية الحرب في سوريا يريدون الخروج منها منتصرين على الإرهاب لتسويغ دخولهم، وليس على أشلاء مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ من المدنيين، بحيث تبقى أيديهم تقطر دماً في ذاكرة البشرية، وأمامهم خصوم يتربصون، وللأسف لم يكن حجم الضحايا المتوقع هو مصدر الحذر الدولي، بمقدار ما كان الخوف من مواجهة موجات نزوح وهجرة جديدة عبر تركيا إلى أوروبا، ولم يكن مستبعداً أن يصل عدد الهاربين من الموت إلى أكثر من مليوني إنسان، زيادة على ملايين السوريين الذين هربوا في سنوات الجمر السابقة، وكانت تركيا بوصفها المنفذ الوحيد جغرافياً مضطرة بأن تسمح للملايين أن يعبروا أرضها وأن تفتح لهم منافذ الهجرة حيث يشاؤون، ولن تكون الأمم المتحدة قادرة على مواجهة هذا العبء الضخم، لذلك جاء اتفاق سوتشي حلاً إنقاذياً، ويبدو أن روسيا قبلت به لتفادي هذه التداعيات، ولاسيما أن الولايات المتحدة خرجت من حالة التخلي السابقة، وبدأت تطلق التصريحات النارية التي تحذر من استخدام الكيماوي ومن الإضرار بالمدنيين، وأيدها موقف دولي.
لقد جاء الاتفاق حسب رؤية تركية وموافقة روسية، وصمت إيراني، معلناً العزم على إقامة منطقة آمنة (طالما دعت إليها تركيا لحل مشكلة ملايين اللاجئين السوريين في أراضيها) ولنزع السلاح الثقيل في المنطقة، وإيجاد طرق ممكنة لإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية، وكان أهم ما في الاتفاق أنه يعيد لبيان جنيف والقرارات الدولية حضوراً قانونياً كان يختفي عبر المراوغات التي مكنت النظام من التهرب من أي استحقاق سياسي.
وأهم ما في هذا الاتفاق أنه يجعل إيران خارج مشهد الحسم السياسي النهائي في جنيف، ويتعامل مع الداعين لتقسيم سوريا معاملته مع الإرهابيين، ويحمّل المجتمع الشعبي المحلي مسؤوليات ملء الفراغ السياسي والإداري.
إن الضامن الوحيد لنجاح هذه الاتفاقية هو الجدية في التوجه إلى الحل النهائي، والذي نصر على أن يتم عبر تنفيذ دقيق لتراتبية القرار 2254، حيث يكون البدء بتنفيذ البنود الفوق - تفاوضية وأهمها إطلاق فوري لسراح المعتقلين، وتشكيل هيئة حكم انتقالي تقوم بتشكيل حكومة تشاركية، وتضع إعلاناً دستورياً، وتشكل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد، وتؤسس لمجلس عسكري مشترك، وتعيد هيكلة الجيش وأجهزة الأمن، وتبدأ مرحلة العدالة الانتقالية وتدعو لانتخابات برلمانية ثم رئاسية، ولذلك أعتقد أن البدء بالدستور وبعده الانتخابات بقيادة النظام نفسه ستكون ملهاة مأساوية جديدة، واستدامة للصراع، وليس علاجاً ناجحاً أن يغلق المعالج جرحاً على ما فيه من عفن.