أعلنت اللجنة السويدية المسؤولة عن جائزة نوبل، يوم الاثنين الماضي، عن منحها جائزة هذا العام في الطب –أو بشكل أدق في الفسيولوجيا- لعالمين كلاهما في السبعينيات من عمرهما، واحد من اليابان، والآخر من الولايات المتحدة، مكافأة لهما على جهودهما في المجال الحديث المعروف بالعلاج المناعي (Immunotherapy) والذي بنيت عليه اختراقات طبية عدة، وخصوصاً في علاج الأمراض السرطانية، مثل سرطان الجلد.
ويعتمد هذا الأسلوب في العلاج على طريقة عمل جهاز المناعة البشري، والمعني بحماية الجسم، والدفاع عنه ضد الجراثيم والميكروبات والطفيليات والديدان. ففي حالة محاولة أيٍ من هذه الكائنات غزو الجسم، أو تمكنها من الدخول إليه، تتعرف إليها خلايا جهاز المناعة، لتسارع بمهاجمتها مستخدمة أسلحة عدة، بعضها كيميائي، والبعض الآخر خلوي، مثل كريات الدم البيضاء. مثل هذا الأسلوب في العمل والدفاع عن الجسم، يعتمد عل حقيقة أساسية، وهي قدرة جهاز المناعة على التمييز بين خلايا ومكونات جسم الشخص، وبين الميكروبات والجراثيم، والتي توصم بأنها غريبة ودخيلة، يجب مهاجمتها وتدميرها.
وأحياناً ما تختل هذه العملية، ويفقد جهاز المناعة قدرته التمييزية تلك، ليسارع بمهاجمة خلايا وأنسجة الجسم، لينتج عن ذلك طائفة الأمراض المعروفة بأمراض المناعة الذاتية، والتي يتخطى عددها الثمانين مرضاً، حسب آخر التصنيفات الطبية. ومن هذه الأمراض نذكر على سبيل المثال لا الحصر: داء السكري من النوع الأول، والذي كان معروفاً سابقاً بسكري الأطفال، والتهاب المفاصل المعروف بالروماتويد، ومرض الصدفية الذي يصيب الجلد، ومرض التصلب المتعدد الناتج عن التهاب الجهاز العصبي المركزي، والتهاب الأمعاء الغليظة بأنواعه المختلفة، ومرض الذئبة الحمراء الذي يصيب المفاصل والجلد والكليتين، وبعض الأمراض التي قد تصيب الغدة الدرقية أو الغدة فوق الكلوية، وغيرها الكثير.
وفي الغالب يُمنع حدوث مثل هذه الاختلالات أو الأمراض، من خلال بروتينات خاصة في جهاز المناعة، تعمل كمكابح تمنع الهجوم على خلايا وأنسجة الجسم، ولكن تتحول هذه الميزة إلى عيب ونقيصة في حالة الإصابة بالأمراض السرطانية. فالخلايا السرطانية في حقيقتها هي خلايا بشرية، خرج معدل انقسامها وتكاثرها عن المعدلات الطبيعية، في شكل من أشكال الانفجار السكاني الخلوي، وتتزايد أعدادها بشكل هائل، لتبدأ في غزو أنسجة وأعضاء الجسم الأخرى، لتعطلها عن العمل، وتؤدي في النهاية لوفاة المريض.
وأمام حقيقة أن الخلايا السرطانية هي في أصلها خلايا بشرية تنتمي لجسم الشخص، يقف جهاز المناعة أمامها مكتوف الأيدي، بسبب البروتينات سابقة الذكر التي تعمل كمكابح تمنعه من مهاجمتها والقضاء عليها. ولذا تعتمد فكرة عمل العلاج المناعي على تعطيل هذه البروتينات، وفك المكابح، وإطلاق العنان لمكونات جهاز المناعة المختلفة لمهاجمة الخلايا السرطانية والقضاء عليها.
وينقسم العلاج المناعي إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول، يعتمد على الخلايا، والنوع الثاني، يعتمد على الأجسام المضادة، أما النوع الثالث، فيعتمد على نوع خاص من البروتينات. وتستغل هذه الأنواع الثلاثة، حقيقة أن الخلايا السرطانية، توجد على أسطحها جزيئات مختلفة بقدر طفيف، عن تلك الموجودة على أسطح الخلايا السليمة، وهي الجزيئات التي يمكن لجهاز المناعة تمييزها. وإذا ما تم تدريب، وتحفيز جهاز المناعة ضد تلك الجزيئات، فسيقوم حينها بمهاجمتها، وتدمير الخلايا المحتوية عليها، أي الخلايا السرطانية، ومن ثم قتل تلك الخلايا.
وبالفعل تم تطوير عدة أدوية وعقاقير بالاعتماد على هذا المفهوم، نجحت في تحقيق الشفاء لمرضى كانوا مصابين بأنواع قاتلة من السرطان لا علاج فعال لها، مثل سرطان الجلد المعروف بالميلانوما (Melanoma). وبخلاف الأمراض السرطانية، يسعى بعض العلماء لاستغلال فكرة تدريب وتطويع جهاز المناعة، في علاج أمراض المناعة الذاتية، وربما حتى الوقاية ضد الإصابة بها من الأساس. فعلى خلفية أن هذه المجموعة من الأمراض، هي في أساسها اختلال في قدرة جهاز المناعة على التفرقة بين ما هو غريب ومرضي، وبين ما هو طبيعي في الجسم، فإنه يمكن إعادة تدريب جهاز المناعة، كي يسترجع هذه القدرة على التمييز مرة أخرى.
ومما لا شك فيه أن مجال العلاج المناعي لا زال في بداياته ومراحله الأولى، وإن كان ما أمكن تحقيقه من خلاله حتى الآن يبشر بمستقبل واعد في علاج الأنواع المختلفة من الأمراض السرطانية، ومن أمراض المناعة الذاتية، بدرجة يرى البعض أنها ستغير من واقع الطب الحديث خلال السنوات والعقود القليلة القادمة.