قبل ثلاثة أيام أعلن تنظيم «داعش» الإرهابي مقتل قيادي كبير بصفوفه في شمال شبه جزيرة سيناء المصرية، لكن تحديد هوية المقتول أظهرت جانباً مما يجري هناك، وهو أن الجيش وقوات الأمن المصرية، وعلى العكس مما جرى أيام الموجة الرابعة للإرهاب التي شهدها البلاد طيلة ثمانية سنوات امتدت من 1989 إلى 1997، لم تعد تواجه تنظيمات محلية، ذات إمكانيات محدودة، إنما تنظيم يأتيه المدد من كل مكان، وموظف في استراتيجيات أكبر من أن يعيها أفراده، الذين يتوهمون أنهم يجاهدون في سبيل الله.
ما أعلنه «داعش»، عبر قنواته على تطبيق تليجرام هو أن القتيل فلسطيني اسمه أبو حمزة المقدسي، وكان مسؤولا عن التخطيط والتدريب في سيناء، وهي رواية إن صحت فإن الأذهان لا يجب أن تربط بين كلمة «فلسطيني» و«الإرهابيين» بقدر ما تبين أن «الإرهاب» لم يعد له مكان ولا جنسية أو هوية محددة، إنما تمكن من أن يسيح في الأرض، ويتعولم، موظفا كل الإمكانيات التي أتاحتها العولمة، بدءاً من الاتصالات وانتهاء بفنون صناعة السلاح ووضع التكتيكات القتالية للجماعات والتنظيمات المسلحة التي تمارس نمطا من حرب العصابات.
والذين يحملون السلاح في وجه الجيش وقوات الأمن المصرية في شمال سيناء لا ينحدرون من مكان واحد، ولا يحملون جنسية واحدة، وما ينطبق على من تجمعوا في الجزء الذي كان قد تم اقتطاعه من سوريا والعراق تحت راية «داعش» بزعم أنه يمثل أرض الخلافة، ينطبق إلى حد عميق على من ذهبوا إلى سيناء في لحظة اضطراب وارتباك كانت مصر تمر بها، حيث جاؤوا من أماكن عدة.
فهناك الذين تقاطروا من ليبيا خلسة، بعد أن سقطت سلطة القذافي، ولم يقتصروا على الليبيين فقط، إنما جماعات إرهابية وتكفيرية موجودة في بلدان عربية شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، بعضها كان قد دفع أفراده إلى الساحة الليبية بدعوى أنها صارت أرضاً للجهاد. وهناك الذين جاؤوا من أماكن أخرى، بعضهم تسلل عبر الأنفاق من غزة إلى مصر، وبعضهم دخل من دول مجاورة لمصر، وتسلل من صحرائها الشرقية، وعبر خليج السويس إلى جنوب سيناء، وكان ينتظره من اصطحبوه إلى وسطها حيث الجبال الوعرة، ومنه إلى الشمال، حيث البؤرة الساخنة الممتدة من رفح شرقاً حتى العريش غرباً.
لكن هؤلاء الوافدين من القتلة لم ينزلوا بأرض خالية من المتطرفين، فمن المعروف أن سيناء، بشمالها وجنوبها، كان ينشط فيها تنظيم محلي متطرف يسمى «التوحيد والجهاد»، قام بثلاث عمليات إرهابية كبرى ضد منشآت سياحية في طابا وشرم الشيخ ودهب على التوالي خلال أعوام 2005 و 2006 و 2007، وشرعت الدولة المصرية وقتها في محاولات لمواجهة أمنية صارمة ضد عناصر التنظيم، لكنها لم تفلح في اجتثاثه، نظراً لعوامل عديدة معقدة، في مطلعها أن بعض هؤلاء هم من أبناء القبائل، شأنهم في هذا شأن أبناء الأسر والعائلات من المتطرفين والإرهابيين في وادي مصر ودلتاها.
لقد قُتل المقدسي مع شخصين آخرين في غارة جوية استهدفت سيارتهم قرب مدينة الشيخ زويد بمحافظة شمال سيناء، ولم يكن هو الوحيد بالطبع الذي يتمكن الجيش المصري من الإجهاز عليه، منذ أن بدأت «العملية الشاملة» في شهر فبراير الماضي للقضاء على المتشددين الموالين لداعش، والتي أعقبت قيام التنظيم بتنفيذ هجوم على مسجد في نوفمبر 2017 أسفر عن مقتل مئات المصلين، ويشارك فيها آلاف من قوات الشرطة والجيش بدعم من الأسلحة الثقيلة والقوات الجوية.
فقوات الجيش قتلت مئات من «الدواعش»، بينما استشهد من صفوفها عشرات الجنود والضباط، لكن يبدو أن أعداد الإرهابيين، سواء من جاؤوا من الخارج أو من العناصر المحلية، ليست بالقليلة، إذ إن العمليات لا تزال متواصلة، ولم يستسلم الإرهابيون، وإن كانت قدرتهم على القيام بعمليات نوعية موجعة قد تراجعت قياسا إلى ما كان قبل انطلاق هذه العملية.
ما يجري في سيناء ليس استثناء في أحداث شهدتها العديد من البلدان الإسلامية نازلت فيها الجيوش النظامية جماعات إرهابية مسلحة بمعدات متقدمة، وهو في معناه ومبناه يقدم مثلا واضحا على الطريقة التي يتجمع بها الإرهابيون، وعلى عدتهم وعتادهم، وقدراتهم على القتال، والقنوات السرية الممتدة بينهم وأطراف خارجية تغذيهم من أجل تحقيق مصالحها، التي لا يعرف صغار المقاتلين في الجماعات الإرهابية شيئا عنها.