«سؤال ذياب وتمارا»..والطريق إلى مكة
د. خالد جمال السويدي
عرض خالد عمر بن ققه
(حين تَابعت إعلاميّاً «الألتراماراثون»، الذي قام به الدكتور خالد جمال السويدي مدير تنفيذي بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في فبراير الماضي، عبر رحلة استغرقت ثلاثة أيَّام وثماني ساعات دون توقف من ميناء الفجيرة حتى ميناء زايد في مدينة أبوظبي(نحو327 كلم)، بَدَا إليّ الأمر عادياً، وأن هذا نوعاً من صناعة نجم ربما يتم تأهليه لمناصب قيادية في الدولة، وأن الفائدة المجتمعية الوحيدة منه، هو التعريف بجمعية «رحمة وجمع التبرعات لها».. فهل كانت رؤيتي هذه صحيحة؟
ما كان لرؤيتي تلك أن تتغيَّر لولا اطِّلاَعِي على كتاب«السر؟!.. ليس هناك سر» لمؤلفه خالد جمال السويدي، الذي تنفرد «الاتحاد» بعرضه في ثلاث حلقات قبل طرحه في الأسواق خلال الأيام المقبلة، وهو يُمَثِّل ظهورَ مبدع حقيقي يُطوِّع التجربة الشّخصيَّة لصالح المنهج العملي، ويُنْهِي سلطة الجسم على العقل، ويَهْزِمُ في مواقع عدة سطوة الشهوات والمتع على الروح، ويَطرح تجربة ذات أبعاد محلية وقومية ودولية.. تجربة إنسانية تُزْهِرُ فيها تجليَّات الذَّات، وجغرافيَّة الوطن، وعلاقات أهله، لتتلاقى، من منطلق معرفي، مع تجارب البشر الآخرين، بلغة عربية سلسلة في متناول الجميع.. وفيما يلي نص الحلقة الثالثة والأخيرة:
في الحلقة الماضية من هذا العرض تناولنا ثلاثية «البدانة القدرية، والمعاناة الشخصية، ودهشة لورا»، وفي هذه الحلقة الأخيرة نواصل عرض تجربة الدكتور خالد السويدي، مع الإشارة إلى أن هذا العرض مهما كانت أهميته وجاذبيته فإنه لن يغني عن قراءة الكتاب ليس فقط لمن هم معنيون بهذه التجربة، وإنما لكل من يهتم بالتجارب الناجحة، أو يريد البحث في كيفية تطويع الجسد وترويض العقل وسمو الروح، لو حتى لمن يسعى لمعرفة الأفكار لحظة ميلادها.
وإذا كان يحقّ لنا تقديم تلخيص الكتاب في فكرة أساسية، فإنه يمكن القول بوعي تام: «هو حديث عن ميراث المعرفي للإنسان الواعي، من زرع الأب الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي إلى نضج المحصول عند الابن خالد السويدي، إلى سؤال الحفيدين ذياب وتمارا». والسؤال هنا: ماذا يستفيد قراء الجريدة اليوم، أو قراء الكتاب غداً، من تجربة غارقة في الخصوصية؟.. أعتقد أن الحلقتين السابقتين قد قدّمتا جزءاً من الإجابة، وفي هذه الحلقة نحاول تقديم ما تبقى منها في إطار فهمنا لما جاء في الكتاب.
يقوم مشروع تغيير الذات ظاهراً وباطناً لدى الدكتور خالد السويدي على فكرة أساسيّة ذات صلة بأجيال المستقبل، و«الفكرة، كما يراها هي البذرة التي يتخلَّق منها كل شيء، ومثلما تحمل البذور في جوفها سر الحياة تحمل الفكرة طاقة التحول إلى واقع، وربما تبدأ الفكرة في صورة إشراقة مفاجئة في وقت غير متوقع، وربما يحفز الشخص ملكاته وأحاسيسه وخياله ووجدانه»، وقد كانت الحالة الأخيرة للفكرة هي الأقرب إليه، وكانت أيضاً المدخل لخوضه «الألتراماراثون»، ولكن كيف ولدت الفكرة؟، ومن أين جاءت؟، وهل هي بِنْت الملل من النجاح؟
لنتابع ما جاء في كتاب السويدي لنعرف الإجابة، يقول المؤلف:«في نهاية أغسطس 2017 كنت أقضي إجازة في منزلي بلندن، مستغرقاً في تفكير عميق حول شيءٍ ما أشعر أنه ينقصني، ولو أنني أخبرت أياً من المقربين مني بهذا الشعور لتملكته الدهشة، إذ كانت حياتي خلال هذا الوقت في كامل استقرارها، وقد رزقني الله تعالى قبلها بوقت قليل بأجمل عطاياه، ذياب وتمارا، ابني وابنتي، التوأمين اللذين لوَّنا حياتي بالمحبة والعذوبة والأمل، وفي الوقت نفسه كنت قد وصلت إلى درجة غير مسبوقة من اللياقة البدنية والارتياح إلى أداء التدريبات الرياضية المكثفة، ومع انتهائي من دراسات ما بعد الدكتوراه، وموقعي المهني مديراً تنفيذياً لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، كان الوضع، بفضل الله، مثالياًّ».
«شيء غامض».. أريده
خالد السويدي في نجواه وحديثه مع نفسه، الذي لم ينقطع بحثاً عن ذلك الشيء الغامض الذي يريده، يظهر مدفوعاً بلهيب داخلي يرفض أن يرضى بما حققته بالفعل، ورغبة حارقة في فِعل شيء ضخم يمنحه شيئاً من السكينة والرضا وفق مقاييسه الخاصة، وكان وصول ذياب وتمارا مؤذناً بانتهاء أجواء الهدوء التي ألفها طويلاً داخل بيته.. لقد شكّل وجودهما الفيزيقي وجوداً آخر في عقله، وهو يبحث عن هدفه المراوغ.
وفي امتحان عسير مع النفس، امتحان الأسئلة المتعلقة بحركة الحياة والزمن والتاريخ وعلاقة الآباء بالأبناء، وجد المؤلف نفسه على النحو الآتي:«كنت أتصور ذياب وتمارا وهما يسألانني حين يكبران عما فعلتُه بحياتي، ماذا سأقول لهما؟ هل سأخبرهما بأنني درستُ، وحصلت على الدكتوراه، وكنت كلَّ يوم أذهب إلى مكتبي، وأعود إلى البيت؟ أي قصة سخيفة هذه؟!.. إنها القصة الأكثر إثارة للملل حين تقدِّمها إلى ابن وابنة ينتظران أن يكون في حياة أبيهما شيء كبير، فكيف يمكن لي أن أنسج خيوط القصة الحقيقية التي تتنبه لها كل حواسهما، وتلمع أعينهما على وقعها حماسة وفخراً؟، كيف أحفزهما على تحقيق هدف كبير أرجوه لهما، من دون أن أكون قد سبقتهما إلى إنجاز هدف من النوع نفسه؟».. لكن هل وجد السويدي إجابات لأسئلته السابقة؟
بمطالعة الكتاب كله سوف ينتهي بنا الأمر إلى القول: إن تجربة خالد السويدي المتعلقة برياضة الجري، وقبلها تخفيف الوزن، وأيضاً تأليف هذا الكتاب، وحتى تجاربه الأخرى التي لا تزال في علم الغيب، ومنها رحلته المنتظرة إلى مكة (فبراير 2019) جميعها تقدم إجابة للسؤال المستقبلي لولَدَيْهِ، والتي يختصرها في قوله: «إن الدراسة مهمة، والعمل مهم، لكنَّ هناك أهدافاً أخرى يجب أن يضعها المرء أمام ناظريه، وإنه لا شيء مستحيلاً إذا أطلق لإرادته العنان»، ويرى الكاتب: «أن مثل هذا التوجيه ضروري في حياة ترسِّخ فكرة الاستسهال.. وهذا الاستسهال ضار بالإنسان وبقدراته، وخاصة في دولة توفر لأبنائها كل ما يحلمون به، وإذا لم نحفز في الجيل الجديد روح التحدي من الداخل، فإنني أخشى أن يكون شبابنا في المستقبل أضعف من أن ينهضوا بمسؤولياتهم وواجباتهم»، ولهذا عمل من أجل الخروج من فضاء الاستسهال، وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد عبر مكاشفة الذات ومصارحتها بشجاعة، واكتساب خبرات جديدة.
سرير الجنرال
والواقع أن خالد السويدي، يعتبر وهو محق في ذلك أن الخروج من حالة الاستسهال والراحة لأجل التغيير لا يحقق منفعة لصاحبه، بل إنه يتعلق بمصير الدولة كلها، ويمثل أمن دولة، لما يحمله من وقاية وحماية صحية لأفراد المجتمع، فإنقاص الوزن مثلاً يؤثر إيجابيّاً على الإنفاق العام، ويساعد على ظهور جيل سليم قادر على الإنتاج والعطاء، بما يحدث من تغيير في العادات، وفي طرق التفكير، وفي التحضير للمستقبل.
ويستشهد الكاتب هنا بتغير عاداته، قائلاً:«في 18 أكتوبر 2017، وهو اليوم التالي لعودتي إلى أبوظبي وتاريخ بدء التدريب المكثف للألتراماراثون، اكتسبت عادة جديدة منحتني سعادة لم تخطر لي ببال، فقد شاهدت على «يوتيوب» شريطاً لجنرال أميركي يقول فيه: إن تغيير العالم يبدأ من ترتيب السرير، ولعل كثيرين ممن يقرؤون هذا العرض قد شاهدوه، ولم آخذ هذا الكلام على محمل الجد تماماً، لكنني في إطار الانفتاح على تغيير نمط الحياة بدأت تنفيذ نصيحة الجنرال، وأنا هنا لم أغيِّر العالم بما فعلت، لكن عالمي أنا، أو جزءاً منه على الأقل، تغيَّر كثيراً منذ فعلت ذلك».
وللتدليل على تغيره، يُشْركنا خالد السويدي في تفاصيل حياته اليومية، بقوله: «إنني أبدأ يومي بترتيب سريري بشكل منتظم تماماً، وفي توازن هندسي دقيق.. غطاء السرير المصنوع من مواد عضوية مشدود، وأغيِّره مرتين في الأسبوع، يومي السبت والأربعاء، والوسادات متوازية تماماً، وحين أغادر الغرفة في طريقي إلى عملي يمنحني مرأى السرير المرتَّب شعوراً بانتظام أمور حياتي، وارتياحاً لهذه المساحة الخالية من أي تجعدات أو انثناءات، أما الشعور الأكثر جمالاً فهو العودة إلى الغرفة عقب العمل في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الذي يستغرقني بأعبائه المتوالية جزءاً كبيراً من اليوم، وعقب التدريب المسائي، إذ ينتظرني بعد الاستحمام سريري النظيف المُنسق، والسرير بالنسبة إلى الرياضي يعني المكان الذي يوفر له راحة يستحقها بعد المشقة والإجهاد، واللحظة التي يستلقي فيها عليه هي الختام الأفضل ليومه استعداداً ليوم جدي».
وينتهي خالد السويدي من تجربته إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن الأشياء تكتسب قيمتها عنده الآن من ارتباطها بالأماكن والوقائع والمعاني، من أمور وثيقة الصلة بنفسه وبكينونته وبتجاربه، وليس من شهرتها أو اسمها التجاري الفخم، وهذا جزء من الاتجاه إلى الداخل، حيث النفسُ التي يلزم التعرف إليها والارتباط بها وفهم دوافعها، وكان ذلك جزءاً من التحرر من نظرة الآخرين أيضاً.. بعد هذا كله ما هو برنامج خالد السويدي في الوقت الحالي؟
ما بعد البيت العتيق؟!
اليوم، وبمقياس الوقت يتدرب خالد ساعات أطول مما كان عليه قبل «ألتراماراثون» الفجيرة - أبوظبي، وبمقياس صعوبة التدريب، فإن تدريبه الآن أشق، والنظام الذي أُلزم نفسه به أكثر صرامة، لكن الراحة تغمره حتى في الأوقات التي يبلغ فيها تعبه منتهاه، ذلك أن الهدف مختلف، وصورة الكعبة المشرفة التي لا تفارق عينيه لحظة منذ أشرقت في خاطره تبعث فيه الطاقة والأمل والسكينة، فتهون الصعاب، وعن ذلك يقول:«منذ وليتُ قلبي ووجهي شطر المسجد الحرام أصبحت ممارسة الرياضة طقساً روحانياً تخالطه حلاوة العبادة، ولذة الخشوع أمام من أمرنا بأن نقصد البيت العتيق رجالاً وركباناً».
وحين أفكر في أن رحلتي عبر أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية (من أبوظبي إلى مكة المكرمة، المسافة بين المدينتين 2070 كيلومتراً) هي محاولة للتعبير عن وحدة القلوب ووحدة المصير، وعن تقديري بصفتي مواطناً عربياً مسلماً لما تبذله الدولتان من أجل العروبة ومن أجل الإسلام، تتبخر الآلام، وتنطوي تحت قدميَّ المسافات. لقد خطرت فكرة الجري من أبوظبي إلى مكة ببال الكاتب وهو في أقصى درجات المعاناة، ولم تغادره من يومها لحظة، وكان الهدف الجديد الأكبر دافعاً له نحو تحقيق الهدف الآنيِّ الذي بدا وقتها صغيراً، وقد أمده حضور البيت العتيق والحرمين الشريفين في ذهنه، كأمل مستقبلي، بطاقة روحية انعكست على طاقته الجسدية، وقاوم من خلالها الإرهاق والألم، ومع نجاحه السابق، وتحضيره بنجاح آخر في رحلته المقبلة إلى مكة، إلا أن الكاتب يجد نفسه في حيرة، نتمنى أن لا تطول، بيّنها في قوله:«السؤال الذي يؤرقني أحياناً هو الهدف التالي، الذي ينبغي أن يكون أكبر، وليس هناك ما هو أكبر من الرحلة إلى مكة المكرمة حيث يحدوني الشوق والإيمان، ولكنني أترك نفسي ليقين بأن الله تعالى سيلهمني ما يجب أن أفعله، في لحظة يقدِّرها جل جلاله بعلمه الكُلِّي، ويُهيئ لي سبلها بإرادته وفضله». انتهى.