صدق على السوريين المثل القائل ( رضينا بالبين لكن البين لم يرض بنا) والبين هنا ،هو القرار 2254 الذي بات المرجعية الوحيدة للحل السياسي، إضافة إلى بيان جنيف 1 لأنهما يتحدثان عن تشكيل هيئة حكم تشاركية، ولكن القرار يشترط التوافق بين النظام والمعارضة. ومن المحال أن يتحقق التوافق بين فريقين تفصل بينهما ساحات الدماء، فالنظام لن يوافق على شيء يمس سلطته، ولاسيما بعد أن هيأ له التدخلان الإيراني والروسي فرص استعادة ما خسره عسكرياً أمام «الجيش الحر»، وكذلك ما وفرته له التنظيمات المتطرفة من اختطاف علني لأهداف الشعب، ما جعل موضوع الإرهاب هو المهم أمام العالم الذي لم تعد تعنيه مطالب الشعب بالحرية والديموقراطية، وما يتعرض له من فواجع. لقد بات ضرورياً أن يصدر مجلس الأمن قراراً جديداً يتجاوز العقبات التي جعلت القرار 2254 ميتاً، ولابد أن يجد مجلس الأمن آلية ملزمة للتنفيذ، فالنظام اليوم غير مضطر (عسكرياً) أن يتنازل عن شيء من سلطته (رغم أنها عملياً بيد الروس والإيرانيين)، وقد منحته روسيا انتصاراتها على الشعب، بتحويل المفاوضات من جنيف وآستانة إلى مصالحات تفرضها بالقوة، ثم لاتلتزم بما ودعت به أمام من صدقوها وصالحوا بناء على وعودها، وما جرى في «حوران» بات محرجاً لمن قبلوا بالمصالحات لأن النظام سرعان ما دخل واستولى على المناطق التي صالحت وبدأ حملات الاعتقال وسوق الشباب إلى الخدمة العسكرية لزجهم في معارك ضد أهلهم في مناطق أخرى، وهذا ما يفقد روسيا مصداقيتها أمام من وثقوا بها، وأعتقد أنهم وثقوا مضطرين، ولا أستبعد أن تكون روسيا مستاءة من خرق النظام لمصداقيتها، لكنها ملتزمة به ومدافعة عن جرائمه، وهذا الموقف الروسي المريب يجعل الشعب في إدلب يتوجس خيفة من مستقبل الاتفاقية الروسية التركية، كما بات يخشى من أن تقوم هيئة التفاوض بأي تنازل عن حقوقه عبر اللجنة الدستورية، وهذا ما جعل الجماهير الغفيرة من السوريين الموجودين في إدلب يقومون بتظاهرات كثيفة لسحب الثقة من هيئة التفاوض الراهنة، محذرين من الوصول إلى دستور وانتخابات تعيد سيطرة النظام وتمنحه شرعية جديدة، وقد سبق أن حذرت من خطر تجاهل التراتبية في تنفيذ القرار 2254 حيث لابد من تشكيل هيئة حكم انتقالية أولاً، وهي التي يكلفها القرار بتشكيل حكومة وجمعية تأسيسية تتولى وضع مسودة الدستور، ويبدو لي أن قادة المجتمع الدولي سيدركون سريعاً أن ما اتفق عليه الرئيسان ترامب وبوتين في فيتنام حول حل القضية السورية عبر لجنة دستور وانتخابات هو غير عملي وغير قابل للتنفيذ وبخاصة لكون النظام يرفض ذلك، ويريد السيطرة الكاملة على اللجنة الدستورية ومخرجاتها، ليضمن عدم المساس بمنصب الرئاسة، وبالتالي سوف يسيطر على مسارات الانتخابات مهما كانت الرقابة جادة.
لقد كتبت في هذه الصفحة قبل سنوات أن الحل الممكن بإشراف مجلس الأمن هو تشكيل مجلس عسكري، يتولى قيادة البلاد ويكلف حكومة تمتلك كامل الصلاحيات، وهي تشكل جمعية تأسيسية لوضع مسودة الدستور، وتدعو إلى انتخابات برلمانية، في الوقت الذي يقوم فيه المجلس العسكري بإعادة هيكلة الجيش والقوات المسلحة، وأجهزة الأمن، وهذا الحل يجب أن يكون ملزماً لا مجال للتراضي أو التوافق فيه، وقد نجح هذا الحل في مصر، كما نجح الحل اليمني حين غادر رئيس اليمن البلاد.
ومهما تكن الحلول المقترحة فإن غياب آليات التنفيذ تجعلها حبراً على ورق، وهذا ما يدركه الجميع، ولئن كان النظام قد أعاد السيطرة على المناطق التي سبق أن حررها منه «الجيش الحر»، فإن هذه العودة غير آمنة وغير مستقرة، وهي إخفاء للجمر تحت رماد طفيف، وثمة أربع محافظات لا تزال خارج سلطة النظام وهي تشكل مساحة كبرى من سوريا وكثافة سكانية، فضلاً عن وضع إدلب المتفجر، ولابد من حل عملي للوصول إلى مرحلة الاستقرار والطمأنينة التي تشجع المهجرين على العودة، وتوفر بيئة آمنة لإعادة الإعمار. وأي حل يرسخ بقاء النظام وتوطيد سلطته سيفتح أبواب الصراع على المستقبل القريب والبعيد، فلابد من تغيير جذري، مهما طال الزمن، والزمن يعني هنا مزيداً من القتل والتدمير لما تبقى من سوريا.