تتميز طائفة الاضطرابات المعروفة بالأمراض العقلية، بشمولها لمدى واسع ومتنوع من الاختلالات، تتباين أعراضها وعلاماتها بشكل كبير، وإن كان معظمها يتميز بخليط من الأفكار المضطربة، ومن المشاعر والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.. غير الطبيعية. وربما كان من أشهر الأمثلة على الأمراض العقلية، الشيزوفرينيا، والذهان، والاكتئاب، والإعاقات العقلية، والاضطرابات الناتجة عن إدمان المخدرات والكحوليات، والتوحد، والعته، وغيرها الكثير.
وتعتبر الأمراض العقلية من أهم قضايا الصحة العامة والمجتمعية، ومن أكثر الاضطرابات الصحية انتشاراً في دول العالم قاطبةً، بناءً على تقرير صدر عام 2001 عن منظمة الصحة العالمية. وقد قدّر التقرير أن حوالي 450 مليون شخص حول العالم يعانون من أحد أنواع الاضطرابات العقلية، وأن واحداً من كل أربعة أشخاص أو ربع أفراد من الجنس البشري، تنطبق عليه في مرحلة ما من حياته صفة الإصابة باضطراب عقلي.
وأمام هذا الانتشار الواسع للاضطرابات العقلية، تم تخصيص يوم العاشر من أكتوبر من كل عام، كيوم عالمي للصحة العقلية (World Mental Health Day)، كمبادرة من الرابطة الدولية للصحة العقلية عام 1992، وهي منظمة عالمية تضم بين أعضائها ممثلين من أكثر من 150 دولة من دول العالم. وفي هذا اليوم، تُقيم العديد من الجهات والمؤسسات الحكومية، والمنظمات الخيرية والتطوعية العاملة في مجال الصحة العقلية، فعاليات وأنشطة عدة، لزيادة الوعي العام بالاضطرابات العقلية، ولنشر الثقافة الفردية والمجتمعية بجوانب الصحة العقلية، ودحض ومكافحة وصمة العار والخزي التي يوسم بها المصابون بأحد أنواع تلك الأمراض. وأحياناً حتى، وكنتيجة للآثار الثقيلة للأمراض العقلية، وفداحة ثمنها الإنساني والاجتماعي والاقتصادي، يتم في بعض الدول -كما في أستراليا- تمديد يوم الصحة العقلية، ليصبح أسبوعاً كاملًا.
وربما كان من أهم المفاهيم الخاطئة التي يسعى اليوم العالمي للصحة العقلية لدحضها ولتغييرها، حقيقةَ أن محددات الصحة العقلية والأمراض العقلية، لا تقتصر فقط على الصفات والسمات الشخصية، مثل القدرة على إدارة الأفكار، والتحكم في المشاعر، وضبط السلوك، وسبل التفاعل مع الآخرين، بل تعتمد أيضاً تلك المحددات على عوامل اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وسياسية، وبيئية.. مثل مستوى المعيشة، وظروف العمل، والسياسات الصحية، والدعم الاجتماعي، وهي كلها محددات تؤثر بشكل واضح في احتمالات الإصابة بالاضطرابات العقلية، وفي مستوى الصحة النفسية. ويمكن أيضاً لمستوى التوتر في الحياة الشخصية، والتركيبة أو العوامل الوراثية، والإصابة بأمراض معدية أثناء الحمل، والتعرض لملوثات ومخاطر بيئية.. أن تكون من محددات الصحة العقلية، وعوامل خطر خلف الإصابة بالاضطرابات العقلية.
وللأسف، لا زالت معظم نظم الرعاية الصحية حول العالم، عاجزة عن الاستجابة بالشكل الملائم والكافي للعبء المرضي المصاحب للاضطرابات العقلية. وكنتيجة لذلك، توجد حالياً فجوة هائلة في غالبية دول العالم، بين عدد مرضى الاضطرابات العقلية وبين المصادر المتاحة والمتوافرة. وعلى سبيل المثال، فإنه في الدول الفقيرة والدول متوسطة الدخل، هناك بين 75 و85 في المئة من مرضى الاضطرابات العقلية لا يتلقون علاجاً لأمراضهم. وحتى في الدول الغنية والصناعية، نجد أن بين 35 و50 في المئة من مرضى الاضطرابات العقلية، لا يتلقون العلاج الكافي. ومما يزيد الطين بلةً أنه حتى من يتلقون العلاج في أي من تلك الدول، الفقيرة والغنية على حد سواء، لا يرقى العلاج المقدم لهم إلى المستوى والنوعية المطلوبين.
وبخلاف العلاج الطبي والرعاية الصحية، يتطلب المصابون باضطرابات عقلية دعماً ورعاية اجتماعيين، خصوصاً على صعيد مساعدتهم في الحصول على فرص للتعليم، وفي المشاركة الأكاديمية التي تناسب احتياجاتهم، كما يتطلبون أيضاً الدعم والمساعدة في الحصول على فرص وظيفية، والانخراط في قوة العمل، وفي العثور على مسكن ملائم.. وهي متطلبات جميعها ضرورية، إذا ما كان لهؤلاء الأشخاص أن يعيشوا بشكل أقرب ما يكون للطبيعي، والمساهمة بشكل فاعل في نشاطات مجتمعاتهم.
تحقيق هذه الأهداف، تم دمجه وإدراجه في «خطة عمل الصحة العقلية 2013-2020»، التي طرحتها منظمة الصحة العالمية، وتم اعتمادها والتصديق عليها من قبل جمعية الصحة العالمية، وتميزت بالتركيز على الدور المحوري للصحة العقلية والنفسية، كمكون هام ورئيسي في رفع مستوى الصحة العامة للأفراد والمجتمع، بناءً على تعريف «الصحة» باعتبار كونها ليست فقط الخلو من الأمراض والعلل العضوية، أو من الإعاقات والعاهات، وإنما هي حالة متكاملة وشاملة من السلامة والعافية، الجسدية والنفسية والاجتماعية، وباعتبارها كذلك حقاً أساسياً من الحقوق الإنسانية.