في تلخيص دقيق للوضع التونسي الحالي، قال لي محلل سياسي بارز إنه يكمن إجمالاً في المعادلة التالية: نظام دستوري هجين يشل عملياً مسار القرار، وهيمنة فعلية للحزب الأيديولوجي الوحيد القائم، وإن كان حزب أقلية، وغياب محور توازن في الحياة السياسية، بما يعرض البلاد لأعلى الأزمات الاجتماعية.
عندما سقط نظام بن علي في بدايات 2011، اعتمدت القوى السياسية وضعاً دستورياً جديداً يجمع بين النظام الرئاسي، مع الحد من صلاحياته التنفيذية، والنظام البرلماني، مع الاحتفاظ بمبدأ الانتخاب العام لرئيس الجمهورية تكريساً لاستقلاليته النسبية عن المجلس التشريعي.
لقد اعتبر فقهاء القانون الدستوري في تونس، ومنهم علماء بارزون معروفون دولياً، أن هذا الإصلاح الدستوري من شأنه تجنيب تونس مسلك التسلطية الأحادية الذي طبع الحياة السياسية منذ استقلال البلاد عام 1956، عندما هيمن الحزب الحاكم الذي يرأسه رئيس الجمهورية هيمنةً كلية على الحقل السياسي، وأصبح الرئيس الزعيم المطلق المسيطر على كل مصادر القرار.
وفي العراق حالة قريبة من النموذج التونسي، رغم اختلاف السياق والخلفيات، باعتبار أن الدستور الذي اعتمدته القوى السياسية بعد سقوط نظام صدام حسين كرّس النظام البرلماني مع الاحتفاظ بصلاحيات رمزية لرئيس الجمهورية، دون أن ينجح هذا النظام الدستوري في إخراج البلاد من حالة التسلطية الأحادية التي انتقلت من تحكم الحزب الأيديولوجي الواحد إلى حكم المليشيات العقدية الطائفية التي أدخلت البلاد في مأزق الفتنة والحرب الأهلية.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن الأنظمة الدستورية في ذاتها ليس لها تأثير حاسم على الحياة السياسية، وإنما هي أدوات شكلية للتعبير عن توازناتها ورهاناتها، فهي وحدها ليست دليلاً على سلامة الوضع الديمقراطي، فأغلب الدكتاتوريات العسكرية في أفريقيا لها أنظمة دستورية «راقية» تكفل صورياً التعددية الحزبية وحقوق الإنسان الأساسية.
وبالعودة إلى التجارب الغربية، يتبين أن الإشكالية الكبرى التي طرحت على المجتمعات الليبرالية الحديثة منذ نهاية القرن الثامن عشر، هي كيف يمكن التوفيق بين مصالح ومؤسسات المجال العمومي، المستقل عن تجاذبات وصراعات السياسة، من جهة، وبين اعتبارات الحقل السياسي الذي هو ميدان تعددية الآراء والأفكار والمواقف، من جهة ثانية.
وإذا كانت هذه التجارب الغربية الكبرى قد اعتمدت نفس النموذج الليبرالي القائم على الفصل بين السلطات، فإنها اختلفت في ضبط إشكالية العلاقة بين المجالين العمومي (المؤسسي) والمدني (المجتمعي) في ثلاثة اتجاهات: النموذج الإنجليزي الذي أسس النظام البرلماني كما اعتمدته جل الديمقراطيات في العالم، والنموذج الأميركي الذي كرس التوازن القوي بين النظامين الرئاسي والبرلماني في إطار الدولة الفيدرالية، والنموذج الفرنسي الذي انتهى إلى تكريس السلطة الرئاسية القوية المجسِّدة للدولة بالتعالي على اعتبارات الظرفية السياسية التعددية.
صحيح أن هذه النماذج الثلاثة تعيش اليوم أزمة عميقة في سياقاتها الأصلية -مما يحتاج لحديث آخر- إلا أن ما يهمنا هنا هو محاولات اختبارها وترسيخها في الساحة العربية. فالدول التي اعتمدت النظام الرئاسي القوي، وهي إجمالاً دول شمال أفريقيا الداخلة كلياً أو جزئياً في دائرة النفوذ الفرنسي، انتهت إلى التسلطية الأحادية بنقل مركزية رئاسة الجمهورية من دلالة تجسيد الدولة والتعبير عن المجال العمومي إلى تشريع الهيمنة الفردية المطلقة اللاغية لمبدأ الفصل بين السلطات، الذي هو المعيار الثابت للمجتمعات الليبرالية.
بيد أن الانتقال إلى النظام البرلماني، كما حدث في تونس والعراق، لم يفض إلى نتائج باهرة، بل إن ما حدث هو إعادة إنتاج السلطة الأحادية عبر الهياكل التمثيلية التي أُرِيدَ لها أن تكرس التعددية السياسية، في الوقت الذي انهار الاستقرار السياسي والأمني نتيجة لتقويض هياكل المجال العمومي المنهكة التي، وإن كانت في العهود السابقة غير مستقلة كلياً، فإنها كانت فعالة ونشطة لكونها غير خاضعة للمحاصصات الطائفية والحزبية.
في تونس، يقول صديقي الباحث السياسي، أفضت التحولات الأخيرة إلى إحداث فراغ كبير في القطب الحداثي الذي تشكل في إطار التجربة البورقيبية، وهو تجمع واسع متعدد المشارب والتوجهات، فلم يستطع أن يتكتل بنجاح في مواجهة «حركة النهضة» التي هي حزب أيديولوجي يقوم على الانضباط الصارم والتحشيد الديني ولا يعترف تنظيمياً بالتعددية والاختلاف، بما يعني إلغاء كل التوازنات الممكنة في الحلبة السياسية. والخوف قائم من أن تتكرر التجربة التركية في تونس (تحول «حزب العدالة والتنمية» إلى حزب أحادي تسلطي حاكم باسم الديمقراطية).
كان الفيلسوف الألماني كارل شميت يقول إن الناس ينسون أن الديمقراطية التعددية قد تكون كغيرها من الأنظمة السياسية أداة لتشريع الهيمنة والتحكم، وذلك ما حدث بالفعل في بعض تجارب الانتقال السياسي التي عرفها العالم العربي في السنوات الأخيرة.