صادف سفري إلى «نيويورك» انعقاد اجتماعات الأمم المتحدة في دورتها الـ73، وهذا بعد انقطاع زياراتي لأميركا قرابة ثلاثة عقود، إذ كانت آخرها في عام 1990، وكان آخر عهدي بـ«توين تاور»، الذي كان رمزاً الحضارة الأميركية وكان يضرب به المثل في طول البنيان وعلوه (107 طوابق). كان برج التجارة العالمية في نيويورك يمثل مدينة مستدامة ومتكاملة، تلبي متطلبات الإنسان، والذي كان إذا دخل «البرج التوأم» لا يحتاج إلى المغادرة طلباً لأي خدمة في شارع مجاور له. فالعمل والدراسة بجميع مراحلها، والترفيه بكل ما يناسب متطلبات الساكن، فدور السينما والملاعب الرياضية وأحواض السباحة، ومحلات التجزئة وعدد من الشركات العملاقة والمصارف العالمية، إضافة إلى إمكانية رؤية أميركا من الطابق الأخير الذي يأخذك المصعد إليه في ثوان معدودات، لترى من علٍ عالماً يضج بالزحام.
في 9-11-2001، كنت بمكتبي في مقر عملي، أتابع الأخبار كالمعتاد، فإذا بلقطة «ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة» تمر عليَّ مر البرق الخاطف بين الحالم والمرتاب، طائرة تصطدم ببرجي التجارة العالمية في نيويورك، طبعاً حدث غير مسبوق غيَّر وجه ووجهة أميركا وسياساتها.
حتى وقت وجودي اليوم في متحف «توين تاور» لسبر أثر الإرهاب في تدمير العمران والإنسان. تغيرت أشياء كثيرة في أميركا، لكن الشيء الذي لم يتغير، وهو الأهم، هو الإنسان الأميركي الذي عبَّر عن رأيه عندما اختار الشعب ترامب رئيساً له: نحترمك رئيساً، لكن لا نحب بعض سياساتك.
بل أصبح الإنسان الأميركي أكثر ترحيباً بالأجنبي، فإن كنتَ مسلماً ربما بادر إليك بتحية الإسلام، وإن دخلت محلاً لشراء بضاعة أو للاستطلاع عنها، بادرك بالترحيب: أنا هنا إذا احتجت لأي مساعدة.. فإن غادرت المحل ودّعك بابتسامة هادئة ودافئة. هذه هي أميركا؛ الناس وليس الإدارة. ولا ينبغي أن نخلط هذا الحابل بذاك النابل، إن أردنا الاستفادة من أميركا الحقيقية.
أمم الأرض اجتمعت احتفاءً بمرور قرابة ثلاثة أرباع القرن على المنظمة الأممية، رغم مطالبة البعض بإحداث تغييرات جذرية في هياكلها التي تكلست بفعل تغيرات الزمن في المناخ السياسي.
يكفي أن أميركا استطاعت أن تلم شعث العالم في عالمها الذي لم يبق أحادياً ولا إمبراطورياً، كما أراد لها بوش الابن خلال فترتيه الرئاسيتين، مشهِراً مقولته الشهيرة: «من ليس معنا فهو ضدنا»، في خطوة أراد منها مسح الحياد من العالم، لكنه لم ينجح.
للشارع الأميركي حراك وصوت مسموع لا يواجه بخراطيم المياه ولا بالقنابل المسيلة للدموع أو الرصاص المطاطي، ولا حتى بالرصص الحي الذي يطلق في شوارع العالم الرابع.
رغم وجود قنوات معروفة لمطالبة المواطنين الأميركيين بحقوقهم، فإن نبض الشارع وخروجه بسلام وأمان، دون أن تحرق سيارة أو حتى إطارها.. لا زال أمراً اعتيادياً وجزءاً من التعبير الديمقراطي للمجتمع وفي ظل حكم القانون.
رأينا مجموعة صغيرة من المتظاهرين يرفعون لوحات تنادي وتطالب بعدم المساس برواتب وحقوق المتقاعدين والمحالين إلى المعاش بسبب الأوضاع الاقتصادية، لأنهم شريحة اجتماعية لا تملك إلا هذا المصدر الوحيد لحياة كريمة، وأي مساس به يعني إذلالا مرفوضاً لمن خدم الوطن الأميركي وقدّم له كل العطاء من عمره.
قبل السفر بيوم تفاجأت بعربي يصرخ في الشارع العام متذمراً من وضعه السيئ منذ جاء إلى أميركا. فقد أوقفني سائلاً: من أين؟ قلت: من الإمارات. قال: أخيراً وجدت من أتحدث إليه، فهنا لا أحد يكترث بي. هذا كل ما دار بيننا، ولم أواصل معه الحديث إذ كنت في عجلة من أمري.
يبدو أنه لم يتقن قواعد اللعبة الأميركية للعيش في بلاد العم سام، على الأقل كما شرحتها هيلاري كلينتون في مذكراتها «الخيارات الصعبة»؛ وأهمها الولاء للوطن قبل كل شيء، لا لحزب ولا فكر.