لا أستطيع، وأنا أراقب ما وصل إليه حال العراق اليوم من طائفية، وفساد، وتشرذُم، وتبديد لموارده، ومعاناة لشعبه، وتهديد لوحدته الوطنية، واستباحة لأرضه، وتجرُّؤ على سيادته من قوى كثيرة، إلا أن أتساءل بألم وحرقة: هل هذا هو العراق الذي عرفناه؟ وهل من المعقول أن يصل إلى هذا المنحدَر الذي لا يعلم نهايته إلا الله؟ وهل هذا هو العراق الذي رفد الحضارة العربية والإسلامية بأعظم العلماء والمفكرين، وله دوره المشهود في مسيرة الحضارة الإنسانية؟ وهل هذا هو العراق الذي كان يؤمَّل منه أن يقدم إلى العالم العربي، ومنطقة الشرق الأوسط كلها، نموذجاً حضارياً للتعايش بين المذاهب والطوائف والأعراق، فإذا به يتحول إلى نموذج للصراع والحقد والكراهية؟ وهل هذا هو العراق الذي يملك كل المقومات التي تجعله من أغنى دول العالم وأكثرها رفاهيةً وتقدماً، فإذا به يتحول إلى دولة تعاني وطأة الفساد المستشري في أوصالها (جاء العراق في المرتبة الـ169 من بين 180 دولة على مؤشر مدركَات الفساد لعام 2017، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في 2018، بـ18 نقطة فقط من 100 نقطة)، ويعاني أهلها الفقر والحرمان والتشرد واللجوء في داخل الوطن وخارجه؟
وما يزيد من عمق الألم والمرارة أن العراق لا ينقصه أي سبب من أسباب التقدم، فلديه التاريخ العريق، والحضارة الخالدة، والأرض الخصبة والمياه، والنفط والغاز والثروات الطبيعية الأخرى، والبشر، فلماذا وصل إلى ما وصل إليه؟ ولماذا الإصرار على السير في طريق الخسران نفسه، الذي سارت فيه شعوب وأمم عبر التاريخ، فكان ما كان من دمارها وخرابها، وسار فيه العراق خلال السنوات الماضية، ولم يجنِ منه سوى الدم والخراب؟ إن الأمر المثير للحيرة أن العراقيين من أكثر الشعوب العربية إدراكاً لمعنى الحروب والصراعات وما تخلِّفه من دمار وخراب ومآسٍ إنسانية، لأنهم عاشوا منذ عام 1980 سلسلة متصلة من الحروب والصراعات التي راح ضحيتها مئات الألوف، ولذلك كان من المفترَض أن يكونوا أحرص الناس على الوفاق والاستقرار والوحدة، واستثمار أي فرصة لتحقيق ذلك. لكن للأسف، فإن دائرة الصراع والحقد والكراهية استمرت في الاتساع بعد عام 2003، ولا تزال مستمرة، بينما يدفع الثمن الأجيال بعد الأجيال من أمنها وحياتها وحاضرها ومستقبلها.

«قسطنطينية» القرن الخامس
حال العراق، اليوم، يذكرني بحال أهل مدينة القسطنطينية في القرن الخامس عشر الميلادي، فبدلاً من أن تتجاوز المدينة خلافاتها، وتركز جهدها لمواجهة الخطر الأكبر الذي كان يتهدد وجودها، المتمثل في السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي كان يحاصرها، ويمطرها بمدافعه، ويستعد لاقتحامها والسيطرة عليها، كانت مشغولة بقضايا خلافية وجدلية عقيمة، مثل جنس الملائكة، وحجم الشيطان، وغيرهما من القضايا التي عُرف بها «الجدل البيزنطي» الشهير في التاريخ. وما أشبه الليلةَ بالبارحة، ففي حين يتعرَّض العراق لمخاطر تهدد وجوده كدولة موحَّدة، وتتعرض أراضيه وسيادته للاختراق الخارجي بشكل مستمر، ويقف البلد كله على فوهة بركان غضب شعبي، واحتقان طائفي وعرقي يمكن أن ينفجر في أي وقت ليأكل الأخضر واليابس، تنشغل قواه وأحزابه وطوائفه بجدالات وسفسطات عبثية تتمحور حول تقسيم الغنائم، وتعظيم مصالح الطائفة والمذهب على حساب الوطن، بل إن هناك من هو مستعد للتنازل عن سيادة العراق لمصلحة الأجنبي، من أجل أن يحظى بنصيب من كعكة السلطة والثروة، من دون إدراك لحقيقة أن هذا الأجنبي سوف ينقلب عليه في النهاية لا محالة إذا تعارضت المصالح، فضلاً عن أن الوطن لم يعد هو الأساس، وإنما تتقدم عليه الطائفة والمذهب والعرق، وسوف يكتشف الجميع في النهاية أنهم خاسرون، لكن بعد فوات الأوان، وضياع الوطن.

خطر الانتماءات الفرعية
لا يمكن القول إن التنوع العرقي والطائفي والمذهبي هو السبب الأساسي في الوضع الخطير الذي وصل إليه العراق اليوم، لأن هذا التنوع ليس سبباً في حد ذاته للصراع والتشرذم، فهناك دول كثيرة في العالم بها هذا التنوع، لكنها نجحت في تحويله إلى مصدر للثراء والتقدم، وليس مصدراً للخلاف والاقتتال. ولكن السبب، من وجهة نظري، هو الفشل في بناء مواطَنة حقيقية يستظل بها الجميع، وتجُبُّ ما عداها من انتماءات فرعية، عرقيةً كانت، أو طائفيةً، أو مذهبيةً، أو قبَليةً، أو دينيةً، أو غيرها. وللأسف ليس هذا هو حال العراق وحده، وإنما حال بعض الدول الأخرى في المنطقة العربية، وهو ما ظهر بشكل خاص بعد أحداث ما يُسمَّى «الربيع العربي»، لأن هذه الدول اهتمت بعد استقلالها ببناء المؤسسات والهياكل العسكرية والأمنية والسياسية وغيرها، ولم تعطِ الاهتمام نفسه لبناء الأمة التي ينصهر فيها الجميع، وتعزيز قيم المواطنة التي تلعب دور الرابط لمكوِّنات الشعب، ولذلك عندما انهارت مؤسسات السلطة في العراق، على سبيل المثال، بعد عام 2003 فوجئنا بأن هناك عراقاً شيعياً، وعراقاً كردياً، وعراقاً سُنياً، وكل واحد منها لا يريد العيش مع الآخر، وأن العراق الواحد، الذي عرفناه منذ الاستقلال، كان قائماً بفعل قوة السلطة، وليس بفعل المواطنة المؤسَّسة على الرضا والقبول والتعايش.
مبادرات عربية جادة
ولا شك في أن التدخلات الخارجية في شؤون العراق، على مدى سنوات طويلة، كان لها دورها الذي لا يمكن إنكاره في الوضع الصعب الذي وصلت إليه البلاد اليوم، لكني أقول دائماً إن نجاح هذه التدخلات في تحقيق أهدافها ليس قدراً محتوماً، وإنما لا بدَّ أن تكون هناك عوامل داخلية تدعمها، وتوفر لها الظروف المناسبة لتحقيق أهدافها، وإذا كانت المؤامرات الخارجية جزءاً أساسياً من السياسة في العالم كله، فإن أصحاب هذه المؤامرات لا يمكنهم تحقيق أهدافهم في الدول المحصَّنة من الداخل.
وثمَّة من يحمِّل العرب المسؤولية، ولو جزئياً، عما جرى للعراق وفيه على مدى العقود الماضية، لأنهم تركوه لقمة سائغة لإيران وأتباعها، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن نغفل الجهود والمبادرات العربية الجادَّة والمخلصة التي حاولت أن تعيد العراق إلى حضنه العربي، وفي مقدمتها جهود دولة الإمارات العربية المتحدة، التي حاولت، وغيرها من الدول العربية، مساعدة العراق بعد عام 2003، وتقديم كل أوجه الدعم إليه، فقام وزير الخارجية والتعاون الدولي، سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، بزيارة بغداد في يونيو 2008، وكان أول وزير خليجي عربي يزور العراق منذ عام 2003. وخلال زيارة رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، لأبوظبي في يوليو 2008، تم إعلان إسقاط كل الديون الإماراتية لدى العراق، البالغة سبعة مليارات دولار. وقام صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، بزيارة بغداد في أكتوبر 2008. لكن القاعدة، التي يعرفها الجميع، هي أن كل دول الأرض لو اجتمعت لمساعدة من لا يملك إرادة مساعدة نفسه، فلن يمكنها أن تفعل له شيئاً، وهذا ما حدث في حالة العراق، حيث انحرف مساره، واتسعت صراعات أبنائه، وبدلاً من أن يتجاوزوا أحقاد الماضي ليبنوا بلدهم انغمسوا في وحل الثارات وتصفية الحسابات، واستعانوا بالقوى الخارجية، وأهملوا بُعدهم العربي وانتماءهم القومي لمصلحة انتماءات أخرى. وعلى الرغم من تنكُّر بعض القوى العراقية للعرب، وانتصارها للانتماء الطائفي المذهبي على حساب الانتماء القومي، فإن العرب لا يزالون يقابلون أي خطوة عراقية تجاههم بخطوات وخطوات، لأنهم يدركون أهمية العراق، التاريخ والحضارة والجغرافيا والبشر، كركن مهم من أركان الأمن القومي العربي، وحاضرة من أبرز الحواضر العربية، وأهمها على مرِّ التاريخ.

سوء الإدارة والطائفية
إن حجم المآسي التي عاشها العراق على مدى العقود الماضية، وحولته من دولة من أغنى الدول العربية وأكثرها تقدماً وقوةً ومنعةً إلى دولة من أفقر دول المنطقة وأكثرها انقساماً وتشرذماً وفساداً واختراقاً من الخارج، نتيجة لسوء الإدارة والطائفية والصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، يجب أن يكون كفيلاً بإقناع أبنائه بأنهم جميعاً لا مستقبل لهم إلا معاً، ولا تنمية ولا عزة ولا كرامة ولا تقدم إلا بالوفاق، وجَعْل مصلحة الوطن فوق كل المصالح الضيقة، والإيمان بأن مكان العراق الطبيعي هو بين أشقائه العرب، وضمن المنظومة العربية، لأن الذين يحاولون اختطافه في هذا الاتجاه أو ذاك، ويعملون على عزله عن محيطه العربي، لا يريدون إلا مصالحهم الخاصة، ولا يستهدفون إلا السيطرة على موارده وتفريغه وتفتيته خدمةً لأهداف طائفية أو عرقية أو إمبراطورية حالمة، فهل حان الوقت لكي يعيَ العراقيون ذلك؟