إذا كانت الوظيفة الأساسية لصندوق النقد الدولي تكمن رسمياً في العمل على استقرار النظام المالي وفي مساعدة البلدان المأزومة على تلافي مشاكلها، فالأمر لا يجري وفق هذه الاستقامة، لتبدو تدخلات الصندوق أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، لاسيما أنه في كل تدخلاته ينتهك سيادة هذه الدول، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من مواطنيها، وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي. وفي كل هذه الغزوات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنوداً، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، وهي عملية التمويل.
ومر هذا الغزو بأربع مراحل؛ الأولى كانت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وخلالها بذل الصندوق جهداً فائقاً في سبيل تمكين الدولار الأميركي من رقبة الاقتصاد العالمي، فصار هو العملة القائدة، وأصبحت المصارف والشركات الأميركية هي الأكثر استثماراً في العالم. وقد انتهز الصندوق فرصة تحرر دول كثيرة من الاستعمار في الستينيات ومد إليها يده، بدعوى إعانتها على مواجهة الظروف الاقتصادية القاسية التي عانتها جراء النهب الاستعماري، وكانت هذه بداية وقوع تلك الدول في حبائل الصندوق.
والمرحلة الثانية تعاون فيها الصندوق مع الحكومة العسكرية الدكتاتورية في شيلي بعد انقلاب بينوشيه، ومثَّل بهذا الجناح الاقتصادي لتدخلات المخابرات الاقتصادية الأميركية في أميركا اللاتينية بغية محاربة اليسار، وتمكين النمط الاقتصادي الليبرالي. وبدأت المرحلة الثالثة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ أن التحولات الاقتصادية التي جرت فيما كان يسمى «الكتلة الشرقية» فتحت باباً واسعاً أمام الصندوق للتغلغل في اقتصادات هذه الدول، فاتسعت، مع السنين، الهوة بين الطبقات، وتراكمت الثروات في جيوب قلة محتكرة من رجال الأعمال وكبار رجال بيروقراطية الدولة. أما المرحلة الرابعة فبدأت بأزمة القروض العقارية الأميركية عالية المخاطر في 2008، والتي تسببت في اهتزاز الاقتصاد العالمي برمته، فتدخل الصندوق طالباً إجراءات تقشفية أدى تطبيقها إلى كوارث اجتماعية متعددة الأبعاد، منها بطالة مفرطة في صفوف الشباب، وتقوض أنظمة الرعاية الاجتماعية، واتساع رقعة الفقر.. مقابل احتكار حفنة من الأغنياء لثروات الدول. وكان لهذه الأوضاع الاقتصادية المشوهة نتائج جارحة على السلم الاجتماعي والاستقرار وبرامج التنمية، وفتحت نوافذ لا حصر لها لتدخل الولايات المتحدة خصوصاً في شؤون الكثير من الدول، ليس فقط من خلال إدارة وتسيير اقتصادها عبر الصندوق، وإنما أيضاً بخلق طبقة مترفة ترتبط مصالحها بالعالم الرأسمالي.
لكل هذا يتساءل أرنست فولفو في كتابه «صندوق النقد الدولي.. قوة عظمى في الساحة العالمية»: كيف يحق لمؤسسة تسببت في تعريض بني البشر لمصائب لا توصف، ورزايا لا نهاية لها، أن تواصل نشاطها وتستمر في أخطائها بلا عقوبة، بمساندة القوى صاحبة السلطان في زمننا الراهن؟
ولا تخلو الحرب التي يشنها الصندوق من ابتزاز دول كثيرة مستهدفة، وهو مطمئن إلى أن أغلبها سيقبل الابتزاز تحت ضغط الفاقة والحاجة، غير مختلف في هذا عما كانت تقوم به الإمبراطوريات الاستعمارية، وهي تحشد جيوشها الجرارة على حدود دول تهددها بالاجتياح، فلا يكون أمام هذه الدول من سبيل سوى الاستجابة لكل ما يطلبه الغزاة. وكما كان لهذه الإمبراطوريات جبروت، فإن الصندوق له جبروته الذي يفوق به أي نفوذ وصلاحية وملاءة تتمتع بها أي من المنظمات المالية في العالم بأسره.
إن جنرالات المال من خبراء الصندوق الذين يفحصون اقتصاديات الدول الفقيرة المقترضة ليس لديهم الدواء الشافي، بل هم مثل أطباء يطيلون أمد علاج المريض في سبيل استنزاف أمواله، وحين يتمكن منه المرض لن يرحموه، ولن يعترفوا بأنهم تسببوا في تفاقم حالته.
وليس «البنك الدولي» أفضل حالا من الصندوق، بل هو الوجه الآخر له، وكلاهما يضمن هيمنة الرأسمالية الغربية على العالم، وفي قلبها الولايات المتحدة التي باتت أكثر إدراكاً، بعد توعكها في الصومال والعراق وأفغانستان (وقبلها فيتنام)، أنه ليس بوسعها إعادة «الاستعمار التقليدي» إلى العالم، فاستبدلت الجنرالات بخبراء اقتصاديين، والرصاص بالدولارات، والحرب النفسية بالروشتات الاقتصادية ذات الطابع الدعائي، صانعةً ألواناً من الاستعارات الجائرة والخادعة في الوقت نفسه.