كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، يرسم الحلم والأمل في رأسه، ويجلس ليخطه على الرمال أمام الرائين. لكن موج الخليج إنْ هاجت، وريح الصحراء إنْ عصفت، لم يكن بوسعهما محو ما خطه، فزايد، كان في الحقيقة، يحفر في صخر، ليشق طريقاً، لا يزال الالتزام به نجاة، واستحضاره واجباً، والنصح به ضرورة، وفهم قيمه التي تتعانق فيها الحكمة والوعي والإرادة والتجربة والصدق أمراً لا فكاك منه.
في عام زايد نتذكر أن الرجل كان عليه إجماع من المثقفين العرب الموزعين على الاتجاهات الفكرية والسياسية كافة، حيث وجدنا أن اليساري والليبرالي والقومي والناصري، المحافظ والراديكالي، المؤيد للسلطة في بلاده والمعارض لها، يتفقون على إنسانية زايد وعروبته وميله الدائم إلى أن يقول ما يصنع التصالح والتسامح والإخاء، وأن يفعل الكثير مما ينفع الناس، ويجبر خواطرهم، ويطبب عوزهم، ويخفف آلامهم. وظل المثقفون العرب، في مواقفهم هذه، مأخوذين بخمسة أسباب في نظرتهم الاستثنائية للشيخ زايد هي:
1 ـ الخيرية، حيث لم يبدد الشيخ زايد ثروة بلاده، مثل أولئك الذين استغلوا الثروات في خدمة أغراضهم الخاصة، بل وظف هذه الثروة في بناء الإمارات وتحديثها، مركزا في الأساس على بناء الرجال، وهي مسألة تتضح بجلاء في قوله: «الثروة ليست ثروة المال بل هي ثروة الرجال. فهم القوة الحقيقية التي نعتز بها، وهم الزرع الذي نستفيء بظلاله، ويجب أن تكون لدينا قناعة راسخة بهذه الحقيقة»، ثم بعدها قدم يد العون إلى كثيرين في مختلف أنحاء العالم.
2ـ حالة الرضا عن الشيخ زايد وطريقة حكمه وإدارته بين الإماراتيين أنفسهم، ليس فقط لأنه بالنسبة لهم الوالد ومؤسس الدولة وراعي الوحدة، بل لأن أقوال الرجل وأفعاله المتطابقة رسخت هذا الرضا، وكان الجميع يؤمنون بأنه يعمل لصالحهم.
وقدمت تجربة الشيخ زايد في الحكم والإدارة نموذجاً سياسياً فريداً، حيث تمكن من أن ينال الرضا الشعبي الجارف عن حكمه، وبنى شرعيته على أسباب أخرى غير التي تتحدث عنها الديمقراطية الغربية أو فلاسفة العقد الاجتماعي أو بعض التصورات حول الشخصية الكارزمية.
فالشيخ زايد استمد كارزميته من أسباب مغايرة نسبيا لتلك المتعارف عليها، وأقام الشورى في القرار بشكل مختلف عما تطرحه الديمقراطية الغربية، التي تلاقي اليوم انتقادات حادة في انتهائها إلى شكل من الاحتكار السياسي والتلاعب بالجماهير عبر المال والإعلام ومصالح النخب. كما تجاوز الشيخ زايد فكرة إقامة حكم على أسس تقليدية، لأنه في الوقت الذي صار فيه رئيسا للدولة، يؤدي مهامه وفق ما تقتضيه طرق الإدارة الحديثة، فإنه احتفظ بموقعه في العقول شيخاً لمشايخ قبائل الإمارات قاطبة، وموقعه في النفوس أباً للجميع.
3 ـ التمسك بالعروبة كوعاء جامع في اللسان والجذر والهوية والهوى، فزايد تصرف طيلة حياته على أنه وبلده جزء لا يتجزأ من العرب، ولهذا انحاز لقضاياهم، ودافع عنهم، وكرس قسطاً كبيراً من جهده ومال بلاده في سبيل تحقيق هذا الهدف. ولهذا كان مسموع الكلمة بين حكام العرب، وإن قال شيئاً في مشكلة أو أزمة صدقه الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، وإن طلب شيئاً لا يرده أحد، لأن الجميع كانوا يعرفون نبل مقصده.
4 ـ هناك تقدير من هؤلاء لتجرية الإمارات في الوحدة، فكثير من التجارب الوحدوية العربية قامت وانفضت، وسادت ثم بادت، وبقيت تجربة الإمارات مختلفة، لأنها لم تقم على القسر والإجبار، أو الظلم والاستغلال، وإنما بُنيت على التفاهم والمودة، والإقناع، وترابط المصالح والانتماء، والإدراك العميق لكون الوحدة اختيارا واختبارا واقتدارا وشعورا بتآلف المسار والمصير.
5ـ هناك اتفاق بين هؤلاء المثقفين على أن الشيخ زايد صالح السياسة على الأخلاق، حين أضفى نزعة إنسانية على الحكم، وتفادى ما يفرضه على آخرين من استعلاء وغطرسة أو الوقوع في تصرفات سلبية يرتبها الشعور الطاغي بالنفوذ، ومنها إجبار المحكومين على اتخاذ آراء ومواقف معينة، أو التلاعب بمشاعرهم وعقولهم، أو إهمالهم بشكل تام.
6ـ النزعة الإنسانية والسلمية، والتي نبعت من إيمان زايد بالمساواة، واقتناعه بأن المفاضلة بين الناس يجب أن تكون على أساس الكفاءة والجدارة ويذل الجهد والولاء للوطن، ونظرته إلى الماضي في تصالح ورضاء، معتزا بتقاليده، في الوقت الذي انفتح فيه على ما لدى الآخرين ليستفيد منه، فضلا عن اهتمامه بوجود بيئة صالحة في وجه التوحش الرأسمالي والاغتراب.