في عام 1054 انقسمت الكنيسة المسيحية إلى قسمين: غربية كاثوليكية مركزها روما، وشرقية أرثوذكسية مركزها اسطنبول. وبعد مرور حوالي خمسمائة عام انقسمت الكنيسة الكاثوليكية، إذ انشقت عنها حركة تصحيحية أطلقت على نفسها الكنيسة البروتستنتينية، والتي تُعرف اليوم باسم الكنيسة الإنجيلية، وهي في الواقع عدة كنائس لكل منها اجتهاداتها الخاصة بها.
لم تعترف الكنيسة الكاثوليكية بالأرثوذكسية ولا بالإنجيلية إلا في عام 1965 إثر انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني وصدور وثيقة «نوسترا إيتاتي» (ومعناها «حالة عصرنا»). والمجمع الذي انعقد بمبادرة من البابا يوحنا الـ23 استمر بعد وفاته، برئاسة البابا بولس السادس. وقد اعترف المجمع في الوقت ذاته بالإسلام، كما رفع التهمة الدائمة عن اليهود على خلفية «مقتل السيد المسيح».
الآن تواجه الكنيسة الأرثوذكسية خطر الانقسام. فبعد أن حافظت على وحدتها منذ الانشقاق الكبير عن روما، فإن هذه الكنيسة تواجه اليوم صراعاً بين جناحيها الأساسيين: موسكو برئاسة البطريرك إلكسي، واسطنبول برئاسة البطريرك بارثالوميو (وهو من أصل يوناني).
لكن هذه المرة لا يقوم الانقسام على خلفية عقدية أو لاهوتية، بل ينطلق من خلاف سياسي، وهو خلاف ينعكس بصورة مباشرة على الكنيسة الأرثوذكسية العربية (في سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين، ودول عربية وأجنبية عديدة أخرى).
في الأساس ليست اسطنبول مقر البطريرك باثالوميو، إذ لم تعد مدينة أرثوذكسية منذ أن احتلها العثمانيون في عام 1453، وحوّلوها عاصمةً لإمبراطوريتهم. ومنذ حينه لم يبق لبطريرك اسطنبول سوى الرمزية. أما الفعالية فتحولت بحكم الأمر الواقع إلى موسكو، عاصمة الدولة الروسية القيصرية آنذاك. لكن احتراماً لهذه الرمزية وافق الروس وبقية أرثوذكس العالم على اعتبار بطريرك اسطنبول «أولاً بين متساوين»، أي على رأس بقية البطاركة الأرثوذكس الـ14 المنتشرين في مختلف أرجاء العالم. وهو المنصب الذي يشغله حالياً البطريرك بارثالوميو.
غير أن هذا التفاهم الداخلي يتعرض الآن للانهيار. فالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا، والتي كانت تابعة لكنيسة موسكو منذ عام 1686، قررت استقلالها الكنسي استكمالاً للاستقلال السياسي لأوكرانيا عن روسيا. وهو استقلال أدى إلى نشوب صراع دموي روسي أوكراني تحول إلى صراع روسي غربي. فقد وقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى جانب أوكرانيا وكنيستها، مما شجع البطريرك بارثالوميو على الاعتراف بالكنيسة الأوكرانية استكمالاً للاعتراف الدولي باستقلال الدولة الأوكرانية.
لذلك أحيط بارثالوميو على مدى الأعوام القليلة الماضية بكثير من الاهتمام والتقدير في أميركا وأوروبا ولدى الفاتيكان بصورة خاصة. من أجل ذلك وصف وزير خارجية روسيا لافروف قرار البطريرك بارثالوميو بالاعتراف باستقلال كنيسة أوكرانيا عن كنيسة موسكو بأنه مثير للفتنة. أما الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية هيثر نورت فقد أشاد بالقرار ووصف البطريرك بأنه «رجل حوار وتسامح».
يدرك البطريرك بارثولوميو معنى اعترافه بكنيسة أوكرانيا. وهو لم يتفاجأ بتداعياته السياسية المعقدة، لذلك تأخر كثيراً في إعلان هذا الاعتراف، حتى استنفد كل مبررات التأجيل. ولما أعلن مؤخراً اعترافه فجرت كنيسة موسكو الأزمة في وجهه، وأدانت قراره بشدة ووجهت إليه اتهامات قاسية وشديدة اللهجة، وذلك لأول مرة منذ أن تبوّأ منصبه الديني.
لم يردّ البطريرك بارثالوميو على الهجوم الحاد الذي تعرض له، فهو كان يتوقعه. لكن ما لم يتوقعه هو تدخل الدولة الروسية بقيادة الرئيس بوتين للضغط على الدول الصديقة لروسيا أو المتحالفة معها لاتخاذ موقف ضده (البطريرك بارثالوميو)، وبالتالي ضد كنيسة اسطنبول. وهنا تجد الكنائس العربية نفسها بين فكي الكماشة. بعض هذه الكنائس، وخاصة الكنيسة اليونانية -كبرى الكنائس الأرثوذكسية في العالم- لم تكن مرتاحة بالأساس للحوار الذي تجاوزها، والذي جرى بين اسطنبول والفاتيكان. صحيح أن بارثالوميو يوناني الأصل، وأنه يجمع بين الجنسية التركية واليونانية. لكنه تجاوز في حواره مع الفاتيكان الحدود التي يعتبر الأرثوذكس اليونانيون أنه يجب الالتزام بها.
من الواضح أن الرئيس بوتين الذي تخلى عن الشيوعية واعتنق المسيحية الأرثوذكسية يريد أن يجعل من موسكو روما الثالثة. كانت روما في إيطاليا المرجع الأول للمسيحية بعد أن اعتنق الملك قسطنطين الديانة الجديدة وأعلنها ديناً للإمبراطورية الرومانية. ثم كانت اسطنبول –روما الثانية- بعد أن انفصلت الأرثوذكسية عن الكاثوليكية. أما روما الثالثة (موسكو) فهي التي يريد بوتين أن تكون من جديد الذراع الديني للدولة الروسية، كما كانت في العهد القيصري.
وفي الأساس ومنذ عام 1453، تطلع الأرثوذكس اليونانيون إلى روسيا لمساعدتهم في مواجهة المد العثماني. أما الآن، وخلافاً لما فعله اليونانيون، فإن الأوكرانيين يتطلعون لكنيسة اسطنبول (روما الثانية) وللدول الأوروبية الكاثوليكية (روما الأولى) لمساعدتهم على التخلص مما يعتبرونه محاولة موسكو فرض هيمنتها السياسية والدينية.
وهذا يعني في الحسابات الأخيرة دفع الكنيسة الأرثوذكسية إلى خطر الانقسام بين محورين؛ شرقي بقيادة موسكو، وغربي بقيادة إسطنبول.
المهم في هذا الخطر أنه لا ينطلق من اجتهادات عقدية، بل يعكس انقساماً سياسياً لم تستطع الكنيسة الأرثوذكسية –حتى الآن على الأقل- أن تتجنبه. لذا هناك اعتقاد قوي بأن الانقسام الحالي لن يكون في مستوى انقسام 1054، الأرثوذكسي الكاثوليكي، ولا في مستوى الانقسام الكاثوليكي الإنجيلي.
فالاختلافات السياسية متحركة ومتغيرة، أما الاختلافات العقدية فجامدة وثابتة مما يجعلها عصية على المعالجة والتجاوز.
لقد تعرضت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لشبه إلغاء على يد القيصر بطرس الأكبر في عام 1721، لكنها تجاوزت هذا الأمر الخطير فيما بعد. وتعرض رجال الكنيسة في عام 1918 للاضطهاد والتشهير والتنكيل في روسيا وأوكرانيا معاً (كانت جزءاً من روسيا)، لكنهم خرجوا من تحت الرماد مثل طائر الفينيق (الأسطوري). وحتى كنيسة إسطنبول عرفت على مدى ألفي عام من تاريخها موجات صادمة وإلغائية، لكنها حافظت على وجودها.
وفي الحالتين، كانت الأخطار تأتي من الخارج. لذا صمدت واستمرت كل من الكنيستين. هذه المرة يأتي الخطر من الداخل، الأمر الذي يتطلب قدراً أكبر من الحكمة في التعامل معه.
وبالأساس ما دخلت السياسية ديناً إلا أفسدته.

*كاتب لبناني