من الصعب تحديد يوم محدد أو تاريخ معين لبداية عصر الطب الحديث، وإنْ كان هناك اختراقات علمية فارقة ومحددة، شكلت مرحلة انتقالية، انتقلت بالطب من المجال التقليدي، أو الشعبي المعتمد على العلاج بالأعشاب ومفهوم الأخلاط الأربعة اليوناني القديم في فهم طبيعة تركيب وعمل الجسم البشري، إلى المجال العلمي الحديث المعتمد على نتائج الدراسات والأبحاث، وعلى الفهم العميق للتركيبة التشريحية للجسم البشري، ولطبيعة العمليات الفسيولوجية الحيوية التي تتم بداخله. وربما كان من أهم هذه الاختراقات الفارقة، اكتشاف الطبيب الإنجليزي «إدوارد جينر» للتطعيم ضد فيروس الجدري في نهاية القرن الثامن عشر، واكتشاف العالم الألماني «روبرت كوخ» عام 1880 لحقيقة تسبب البكتيريا في العديد من الأمراض المعدية، ثم اكتشاف المضادات الحيوية في بداية القرن العشرين.
ومن الصعب أيضاً حصر أعداد من أنقذت المضادات الحيوية حياتهم خلال القرن العشرين، والعقدين الماضيين من القرن الحالي، ولكن بناء على أن الغالبية العظمى من أفراد الجنس البشري قد تلقوا في مرحلة ما من حياتهم علاج بالمضادات الحيوية، مرة واحدة على الأقل، وربما عدة مرات، يمكن القول بأن الغالبية العظمى من أفراد الجنس البشري الحاليين يدونون بحياتهم للمضادات الحيوية، والتي كان جزء كبير منهم ليفقدها لولا هذه الطائفة من العقاقير الطبية التي تستحق الوصف بالمعجزة.
وبخلاف الدور الأساسي للمضادات الحيوية في علاج العدوى البكتيرية بمختلف أنواعها، تلعب هذه الطائفة من العقاقير والأدوية الطبية دوراً محورياً آخر في تحقيق الوقاية من العدوى من الأساس بعد العديد من الإجراءات والتدخلات الطبية، مثل الجراحة بمختلف أنواعها وأشكالها، أو نقل وزراعة الأعضاء، ولدرجة أنه يمكن القول إن نسبة كبيرة من التدخلات الطبية الحديثة لن تكون ممكنة، لولا الدور الذي تلعبه المضادات الحيوية في وقاية المريض من العدوى لاحقاً.
هذان الدوران للمضادات الحيوية، العلاج والوقاية، أصبحا معرضين للخطر، بسبب قدرة بعض أنواع البكتيريا على توليد مقاومة ضدها. فرغم أن المضادات الحيوية تقتل الغالبية العظمى من أفراد البكتيريا، إلى أن بعض هؤلاء الأفراد يتمتعون بتركيبة وراثية مختلفة، تمكنهم من مقاومة التأثير القاتل للمضادات الحيوية. وبمرور الوقت، يتزايد عدد أفراد هذه الأنواع المقاومة، بل إن بعضها أصبح يتمتع بالقدرة على مقاومة كل ما هو متاح –تقريباً- من أصناف وأنواع المضادات الحيوية، وهي أنواع البكتيريا التي أصبح يطلق عليها صفة «السوبر بكتيريا».
هذه الحقيقة وما نتج عنها من وضع مؤسف يتزايد تدهوراً، تشكل السمة الأساسية فيما يعرف بالأسبوع العالمي للوعي بالمضادات الحيوية (World Antibiotic Awareness Week)، والذي يحل كل عام في شهر نوفمبر، وبالتحديد من الثاني عشر إلى الثامن عشر من نوفمبر هذا العام. ويهدف هذا الحدث السنوي إلى زيادة الوعي الدولي بظاهرة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، والحث والتشجيع على اتباع أفضل الممارسات عند استخدام أعضاء هذه الطائفة من الأدوية والعقاقير بالغة الأهمية، بين العامة، وأفراد الفريق الطبي، وواضعي السياسات والتشريعات، كخط دفاع أول ضد تفاقم وانتشار قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية.
ومما يزيد الطين بلة، خلاصة تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية في سبتمبر من العام الماضي، خلص فيه خبراء المنظمة الدولية إلى وجود نقص خطير وشديد في مجال تطوير أنواع جديدة من المضادات الحيوية، قادرة على وقف ظاهرة تزايد مقاومة البكتيريا والجراثيم للأدوية والعقاقير. وحذر التقرير من أن المضادات الحيوية (الجديدة) التي تخضع حالياً للأبحاث والدراسات السريرية، قبل طرحها في الأسواق، ما هي في الحقيقة إلا نسخ معدلة جزئياً من المضادات الحيوية الحالية، وليست بالمركبات الكيميائية الجديدة والمختلفة. وهو ما يعني أن البكتيريا التي تولد لديها مقاومة ضد المركب الأساسي، لن تستغرق وقتاً طويلاً كي تتمكن من توليد مقاومة أيضاً ضد النسخ الجديدة المعدلة جزئياً، ما يجعل من جميع المضادات الحيوية التي تخضع للدراسات والأبحاث حالياً مجرد حل قصير المدى، لا يتعامل مع المشكلة من جذورها.
ويمكن تلخيص الموقف برمته في تصريح البروفيسور «سالي ديفيس» كبيرة الأطباء في إنجلترا بداية الشهر الجاري بأننا «أصبحنا مهددين بالعودة بالطب الحديث إلى العصور المظلمة». وما تعنيه، أن تزايد قدرة البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية، وانتشار هذه القدرة بين أنواع وأصناف البكتيريا المختلفة، في بقاع وأصقاع الأرض قاطبة، يهدد حياة من يصابون بعدوى بكتيرية يمكن علاجها حالياً بوصفة طبية بسيطة تصرف من أي صيدلية، تماماً كما كان الحال منذ وطئت أقدام أفراد الجنس البشري، وحتى منتصف القرن العشرين حين كان الكثيرون يلقون حتفهم من جراء عدوى بسيطة.