في يوم الـ11 من الشهر الـ11 في الساعة الـ11، اللحظة التي أعلن فيها وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب العالمية الأولى قبل مئة عام، اجتمع في باريس زعماء الدول التي قاتلت بعضها في تلك الحرب الوحشية. كان ذلك متوقعاً، لكن المفاجئ كان هو الحد الذي كشفت فيه مناسبة رسمية كهذه عن حقيقة العلاقات بين حلفاء سابقين، وخصوم سابقين اليوم.
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي كانت غائبة، فقد اختارت حضور حفل في لندن، ترأسه الأمير تشارلز، أمام نصب تذكاري لقتلى الحرب البريطانيين. والأمر يتعلق بحدث يتم تنظيمه سنوياً، وبالتالي فليس ثمة أي شيء مفاجئ في قرارها البقاء داخل بريطانيا، غير أن ذلك أتى في نهاية أسبوع مزقت فيه حكومتها، بعد أن دخلت في خصام علني حول الطريقة التي ستغادر بها بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وستخلق نزاعات جديدة مع حلفاء قدامى. وفي هذا السياق، بدا غياب بريطانيا، التي تعد أحد أهم المشاركين في الحرب، منذِراً بالسوء.
وبينما سار معظم الزعماء على شارع «الشانزليزيه» نحو «قوس النصر»، لم يكن الرئيس الأميركي من بينهم أيضاً. وكان ترامب قد تخلف عن زيارة مقبرة أميركية بالقرب من باريس في اليوم السابق، متذرعاً بـ«المطر». وفي الحادي عشر من نوفمبر، أشار المتحدث باسمه إلى «إجراءات أمنية» لتفسير تأخره، لكن لأن الآخرين لم يكونوا قلقين بشأن الأمن، فقد بدا هذا التفسير غير مقنع.
ربما لم يتعاف ترامب بعد من وقع نتائج الانتخابات النصفية، أو ربما لم يستطع رفض القيام بلفتة تضامن تجاه حلفاء حاربت إلى جانبهم أميركا في حروب سابقة. فعن أوروبا، كتب ترامب سنة 2000 يقول: «حروبهم لا تستحق أرواحاً أميركية». وعلى كل حال، فقد وصل متأخراً. وعلى نحو ينم عن العجرفة، وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متأخراً أكثر.
وبالمقابل، لم تنزعج المستشارة الألمانية من الإجراءات الأمنية. فرغم الأمطار، حضرت ميركل الحفلَ خلال اليوم السابق في كومبين، وهو موقع الاستسلام الألماني الفعلي في 1918. كانت ميركل أول مستشارة ألمانية تأتي إلى كومبين منذ أدولف هتلر الذي أصر على استسلام الفرنسيين هناك عام 1940. رغبتها في الظهور في كومبين، وإرسال الرئيس الألماني (رئيس دولة بروتوكولي أكثر) إلى لندن لأول مرة كذلك، هو من اللفتات التي بتنا نتوقعها منها ومن ألمانيا، البلد الذي ما زال زعماؤه السياسيون يؤمنون بأن مستقبلهم يوجد في التحالفات التي أُنشئت في أعقاب حروب القرن العشرين الفظيعة، لكن رغم أننا بتنا نتوقعها، فمن المهم أيضاً أن نتذكر مدى روعة واستثنائية هذه اللفتات في سياق تاريخ ألمانيا ما بعد عام 1918.
وفي الأخير، تُركت للرئيس الفرنسي مهمة تلخيص كل هذه الصور وتحويلها إلى كلمات. في فرنسا، وهي بلد درج على النظر إلى نفسه كدولة عظمى، ويتذكر أن إمبراطوره السابق نابليون الذي غزا معظم أوروبا هو من أمر ببناء «قوس النصر»، هناك تاريخياً مشاعر متضاربة حول التحالفات. وقد سعى ماكرون إلى حلها، مغتنماً المناسبة للتمييز بين حب الوطن والقومية، إذ قال: «إن حب الوطن هو عكس القومية.. فعندما نقول: إن مصالحنا هي الأولى، ومصالح الآخرين لا تهم، فإننا نمحو أعز وأغلى ما لدى أي دولة، أي ما يمكّنها من أن تعيش، ألا وهو قيمها الأخلاقية».
لكن رغم أننا بتنا نتوقع هذا الكلام من ماكرون، أي إمكانية الشعور بالوفاء لبلد المرء وللقيم الكونية معاً، إلا أن الجميع لا يتفق مع هذا الرأي في فرنسا، كما أن الرئيس الفرنسي لا يتمتع بشعبية كبيرة، وليست ثمة ضمانة على أن من سيخلفه سيتبنى ذات الموقف.
وكما أسلفتُ، فقد كان ذلك مجرد حفل أو فعالية عُزفت خلالها الموسيقى، ورُفعت فيها الأعلام، لكنا قد ننظر إليها ذات يوم في المستقبل باعتبارها إحدى آخر الحفلات من هذا النوع.

*محللة سياسية أميركية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»