تتواتر الدراسات الواحدة تلو الأخرى، التي تظهر حدوث انخفاض واضح ومتسارع في معدلات الخصوبة في العديد من الدول والمجتمعات البشرية. آخر تلك الدراسات نشر في العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المرموقة (Lancet)، وقام من خلالها الباحثون بمتابعة اتجاهات معدلات الخصوبة في غالبية دول العالم، خلال الفترة من 1950 إلى 2017، ليكتشفوا أن النساء في منتصف القرن الماضي كن يلدن 4.7 طفل في المتوسط، إلا هذا المعدل انخفض إلى النصف فقط في عام 2017، أو 2.4 طفل لكل امرأة. وتميز هذا الاتجاه العالمي بتباين واضح وصارخ في معدلات الخصوبة بين دول وشعوب العالم. ففي الوقت الذي نجد فيه أن المرأة في جزيرة قبرص لا تلد طوال حياتها أكثر من طفل واحد في المتوسط، و1.7 طفل بين معظم النساء الأوروبيات، نجد أن نساء النيجر في غرب أفريقيا يلدن في المتوسط 7.1 طفل خلال حياتهن، أي سبعة أضعاف معدل المرأة القبرصية، وأكثر من أربعة أضعاف متوسط المرأة الأوروبية.
وتتوافق نتائج هذه الدراسة الأخيرة مع خلاصة دراسة نشرت منتصف الصيف الماضي في إحدى الدوريات الطبية المتخصصة في الخصوبة والإنجاب، حذّر فيها العلماء من أن الجنس البشري مهدد بالفناء، بالنظر إلى الانخفاض المستمر في خصوبة الرجال. وأطلق العلماء تحذيرهم هذا بناءً على تحليل ما يقارب 200 دراسة أجريت ما بين عامي 1973 و2011 في أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا، وأظهر مجمل نتائجها انخفاض عدد الحيوانات المنوية لدى الذكور، بمقدار النصف، خلال أقل من 40 عاماً.
ومن الضروري قبل الاستطراد هنا، أن نفرق بين الخصوبة أو القدرة على الإنجاب، وبين القوة أو القدرة الجنسية، حيث إن تراجع الخصوبة الذي أشارت إليه الدراسة الأخيرة لا علاقة له بالقدرة الجنسية، وإنما كان سببه انخفاض إنتاج الحيوانات المنوية.
وتُعرّف الخصوبة على أنها القدرة على إنجاب ذرية، بينما يشير معدل الخصوبة إلى عدد الذرية التي ينجبها زوجان، أو تلك التي ينجبها شخص ما أو المجتمع برمته. ومن المعروف أن الخصوبة ومعدلها يتأثران بعوامل عدة متداخلة ومتشابكة، مثل كمية ونوع التغذية، وهرمونات الجسم، والسلوك الجنسي، والثقافة المجتمعية، والتوقيت، والحالة الاقتصادية، ودرجة القرابة، والغريزة، ونمط الحياة الشخصية، والمشاعر والأحاسيس.
وترتبط معدلات الخصوبة ارتباطاً وثيقاً بالتوقعات السكانية المستقبلية، حيث إنه من المعروف والثابت في مجال الدراسات السكانية، أنه كي يظل عدد السكان في مجتمع ما ثابتاً دون تغيير خلال السنوات والعقود القادمة، فلا بد أن يتساوى معدل الإنجاب -على الأقل- مع مستوى معدل الإحلال، وهو الحد الأدنى من عدد الأطفال الذي ينبغي أن تنجبه كل امرأة خلال حياتها للمحافظة على عدد السكان ثابتاً. وهذا المعدل يتراوح حالياً ما بين 2.1 طفل لكل امرأة في الدول الصناعية، و2.5 إلى 3.3 طفل لكل امرأة في الدول النامية والفقيرة، بسبب ارتفاع معدل الوفيات في تلك الدول. وبوجه عام، ومن المنظور العالمي، يحتاج الجنس البشري برمته إلى معدل إنجاب يبلغ حوالي 2.3 طفل لكل زوجين، حتى يظل عدد أفراده ثابتاً.
ووفقاً للقائمين على الدراسة الأخيرة التي نشرت نتائجها الأسبوع الماضي، لا يعتقدُ العلماءُ أن انخفاض معدلات الخصوبة الواضح في غالبية دول العالم يمكن رده بشكل كامل إلى انخفاض عدد الحيوانات المنوية لدى الرجال. بل يضع هؤلاء العلماءُ قائمة من الأسباب الأخرى، التي يشيرون إليها بأصابع الاتهام حالياً، ومنها أولاً: انخفاض معدلات الوفيات بين الأطفال حديثي الولادة، مما يحفز النساء على ولادة عدد أقل من الأطفال، كون الغالبية العظمى منهن سيبقين على قيد الحياة، بخلاف ما كان يحدث عبر مراحل التاريخ البشري السابقة. ثانياً: توفر وسائل منع الحمل بشكل غير مسبوق، وبأسعار زهيدة نسبياً. ثالثاً: انخراط عدد أكبر من النساء في التعليم بمختلف مستوياته، بما في ذلك التعليم العالي، والتحاق نسبة كبيرة منهن بسوق العمل، مما يجبرهن على إنجاب عدد أقل من الأطفال. وهو ما يعني أن انخفاض معدلات خصوبة العديد من المجتمعات البشرية حالياً، وخطر بقائها أو انقراضها لاحقاً، هو نتيجة لعدة نجاحات حققها الجنس البشري في العقود الأخيرة، على صعُد انخفاض معدلات الوفيات بين المواليد، وتوافر وفعالية وسائل منع الحمل، وانخراط أعداد أكبر من الإناث في التعليم وفي العمل لاحقاً.

*كاتب متخصص في القضايا العلمية والصحية