يعتقد علماء السياسة أنهم يحتكرون دراسة القوّة وفك طلاسمها، وهذا غير دقيق. وبما أن القوّة حاضرة في كل العلاقات الاجتماعية، بين الأصدقاء وحتى داخل الأسرة الواحدة، فقد اهتم بدراستها باحثون في مجالات أخرى مثل علمي النفس والاجتماع. ولعل أهم باحث معاصر في هذا المجال هو البروفيسور مايكل مان، عالم الاجتماع البريطاني الذي اختطفته جامعة لوس أنجلوس بعد نشره مجلدين (نحو 1400 صفحة)، أولهما عن مصادر القوّة في مرحلة ما قبل التاريخ وحتى عام 1760، وثانيهما عن قوّة الطبقات الاجتماعية والدول من 1760 وحتى 1914. ويبدو أن «مان» يعكف حالياً على كتابة مجلد ثالث ضخم يعالج تطور القوّة ومصادرها حتى عصر العولمة.
ومع ذلك، فالانطباع العام هو أن علماء السياسة لهم باع خاص في تحليل القوّة ومصادرها، وهذا صحيح لسببين: أولاً، أنه على العكس من العلاقة بين الأصدقاء أو داخل الأسرة، حيث تتدخل عوامل إنسانية وعاطفية، فإن السياسة ترتكز على علاقات القوّة أكثر من غيرها، إذ يعرّف بعضنا السياسة باعتبارها تشابكات القوّة والمصالح. ثانياً، أهمية حجم ومستوى القوّة في الممارسة السياسة نفسها، خاصة في العلاقات الدولية، حيث المكسب مهم وثمن الخسارة باهظ لدرجة أنه قد يؤدي إلى فقدان السلطة أو حتى زوال دولة بكاملها.
لذلك كان اختيار مركز الإمارات للسياسات في نسخته السنوية الخامسة من «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي» موضوع القوّة وتفاعلاتها، اختياراً صائباً وموفقاً.
وكعادة الملتقى في دوراته الأربع السابقة، فإنه لم يقتصر على التجريد، بل ربط أنواع القوّة، من الصلبة إلى الناعمة إلى الذكية، بالواقع العالمي المعاصر، كما توضح جلساته الاثني عشر، بالإضافة إلى ما قدمته الدكتورة ابتسام الكتبي، مديرة المركز، من خلاصات واستنتاجات دسمة لهذه الجلسات، والتي اتسمت كلها بالجدية والوضوح.
لقد تناولت الجلسة الأولى تجربة الإمارات كنموذج لبناء القوّة، إذ نجحت في شق طريق خاص بها قد يستطيع الآخرون تقليده أو البناء عليه، لما ميزه من تقدم اقتصادي واجتماعي، وتطوير لصيغة النظام الاتحادي.
أما تحليل حالة الولايات المتحدة، فأخذ عنوان «إغراء القوّة»، وروسيا «طموح القوّة»، والصين «حدود القوّة»، والهند «صعود القوّة»، وأفريقيا «القوّة الكامنة».. بينما جسدت أوروبا المهيمنة تاريخياً حالة «الحنين إلى القوّة».
وبالطبع لم يكن من المتصور إهمال منطقتنا. وفي حين أن تعبير «القوّة وتفاعلاتها» كان حاضراً وبوضوح في كل الجلسات، فقد اختار المنظمون للجلسة التي تعالج حالة المنطقة العربية عدم تصور للقوّة وتفاعلاتها، بل اختفى تعبير القوّة تماماً ليحل محله تعبير آخر مثير للخيال: «المشي على الماء». أي أن العالم العربي حالياً في منطقة خطر مسيطر عليه، ما يفرض على كل من يعالجه سياسياً تجنّب الغرق، حتى ولو عن طريق مزاولة لعبة الأكروبات.
كانت هذه الجلسة على مستوى التحدي، حيث جمع المشاركون بين الفكر والممارسة: وزير الخارجية المصري الأسبق نبيل فهمي، رئيس وزراء اليمن الأسبق خالد بحاح، رئيس وزراء ليبيا الأسبق محمود جبريل.. فقد جَمَعوا كلُّهم بين رصيد التحليل العلمي وخبرة العمل الميداني.
في ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الرابع للعام الماضي، كان هناك 300 مشارك من جميع أنحاء العالم، قدموا 30 مداخلة في 6 جلسات. وفي هذا العام تم تنظيم 12 جلسة، ولنا أن نتصور عدد المشاركين والمداخلات.
في طريق العودة للقاهرة، فكرت مليّاً وتساءلت: لماذا ينجح ملتقى أبوظبي الاستراتيجي بهذه الدرجة في عالم يزدحم بمراكز البحث وبنوك الفكر، وهو المركز الحديث نسبياً؟ الإجابة باختصار هي: التزام مركز الإمارات للسياسات بتوفير المعلومة الموثوقة (والموثقة) والتحليل العلمي الموضوعي، وتوظيف أحدث وأوثق المنهجيات العلمية لفهم وتفسير المشهد الجيواستراتيجي العالمي والإقليمي.
في عالم المعرفة ليس هناك وصفة جاهزة للنجاح، وليكن هذا هو النموذج المتبع في التحليل والممارسة معاً.