يفترض أن تبدأ جولة جديدة من المباحثات في آستانة حول القضية السورية في نهاية نوفمبر الجاري، وكانت الجولة العاشرة التي انعقدت أواخر يوليو الماضي قد ناقشت قضايا مكافحة الإرهاب والمعتقلين وعودة اللاجئين، إلى جانب مسألة اللجنة الدستورية. ويومها قال رئيس الوفد الروسي "ألكسندر لافرينتتيف" إن هناك تغيرات إيجابية، ولم يلحظ السوريون أي تغييرات عبر مباحثات آستانة السابقة كلها غير ما سمي بخفض التصعيد، الذي جاءت نتائجه مصالحات قسرية مع النظام السوري، وتسليم الأسلحة أو التهجير القسري إلى الشمال السوري. وللأسف لم تتمكن روسيا من تنفيذ ضماناتها لمن قبلوا المصالحة، والواضح أن إيران تلعب دوراً كبيراً في إفشال أي مسعى نحو إيجاد حل للقضية السورية، فهي تعلم أن انتهاء الصراع بين النظام والمعارضة قد يلم شمل السوريين من جديد، وعندها سيتم سؤال الإيرانيين (ماذا تفعلون هنا؟) ولن يتمكن النظام من تسويغ بقاء الاحتلال الإيراني بعد الحل السياسي، ولا سيما أن البيئة الشعبية العامة ترفض وجود إيران التي تحرص على تحقيق احتلال ايديولوجي وثقافي وديموغرافي لا تقبل به الغالبية العظمى من المجتمع السوري، ولن تستطيع روسيا الدفاع عن مشروع إيران التوسعي في المنطقة العربية، لأن ذلك سيفقد روسيا ما بنته من علاقات وطيدة مع عدد مع الدول العربية والعالم، لأن إيران لم تعد تهدد الحضور العربي وحده، بل باتت تهدد السلم العالمي، ولاسيما في تصريحاتها الاستفزازية لكونها تسيطر على باب المندب عبر "الحوثيين"، وتسيطر حين تشاء على مضيق هرمز، وتدعم نفوذها حتى على قناة السويس من خلال طموحها للسيطرة على البحر الأحمر، ومن الصعب أن توافق روسيا على هذه الطموحات الإمبراطورية التي يقف العالم كله ضدها، لأن السيطرة على ممرات الملاحة الدولية ليس أمراً متروكاً لإيران، لكن نجاحها الراهن في السيطرة على العراق ولبنان وسوريا، وسعيها للسيطرة على اليمن فتح شهيتها حتى لتهديد الولايات المتحدة بعقاب شديد. ففي آخر تصريحاتها تتوعد القواعد والسفن الأميركية بتدميرها، فهي تمتلك صواريخ يصل مداها إلى 700 كلم، ويمكن أن تستخدمها في خليج عُمان، بل وفي أفغانستان ضد السفن والناقلات والقواعد الأميركية، كما صرح بالأمس قائد القوى الجوية في الحرس الثوري، في رده على العقوبات الأميركية.
وعلى الرغم من إدانتنا المستمرة لنتائج التدخل الروسي العسكري في سوريا، فإننا ندرك أن التدخل العسكري الإيراني في سوريا هو أخطر على الصعيد الاستراتيجي، لأن روسيا لا تحمل فكراً وثقافة معينة تريد نشرها بين السوريين، وإنما هي تبحث عن مصالح حيوية تظن أن النظام قادر على ضمانها مستقبلاً، فهي تريد أولاً حضوراً عسكرياً في منطقتنا وتوجيه رسالة قوية للغرب كله، مفادها (لقد عدنا ولن نترك لكم الشرق الأوسط وحدكم)، بل إنها تعمل على إنهاء سياسة القطب الأوحد، لتبرز مكانتها الدولية، وبرغم القلق الغربي من هذا الحضور إلا أن روسيا نجحت في ليّ ذراع الجميع عبر تفردها بالقضية السورية، وعبر اثنتي عشرة مرة استخدمت فيها "الفيتو" معطلة قرارات مجلس الأمن، وعبر إصرارها على رفض مسار المفاوضات في جنيف، وتحديها للأمم المتحدة بنقل ملف التفاوض إلى آستانة، مما دعا الأمم المتحدة بعد رفض قلق أن تقبل حتى بدور مراقب مبدئياً، وقد تمكن بوتين من أن يقنع ترامب في لقائهما في فيتنام أن الحل الممكن للقضية السورية هو (دستور وانتخابات)، وتم تجاهل هيئة الحكم الانتقالية (التي نص عليها بيان جنيف وقرارات مجلس الأمن)، ومع أن هيئة التفاوض لا تزال تصر في تصريحاتها على تشكيل هيئة حكم، إلا أنها استجابت لتشكيل لجنة دستورية، ولم تلق مقترحاتها موافقة روسية لأن النظام السوري يرفضها، ويصر على أن يكون المسيطر، وها هو ذا النظام يرفض اتفاقية سوتشي بين روسيا وتركيا، فتخرج تصريحات روسية تعبر عن التململ من مسار الاتفاقية، ولنا أن نتوقع تغيرات خطيرة حول الوضع في إدلب، لأن التنظيمات المتطرفة تجد من يدعهما في الرفض، فإيران تريد حرباً يستعيد فيها النظام سيطرته على الشمال، كي يبقى دورها العسكري أساسياً، وعندها لا حاجة لأي حل سياسي مع اكتمال الحل العسكري.
والسؤال الآن هل ستجد جولة آستانة القادمة مخرجاً من تأزم الوضع في إدلب، وهل بوسعها أن تترك شيئاً للتفاوض حول الحل النهائي في جنيف؟ وهل سيكون الحل في إدلب باتجاه تمديد تخفيض التصعيد ومنح فرصة أطول لحلول سياسية من دون مزيد من الدماء؟ أم أنها ستفتح للنظام وإيران، بمشاركة روسية بوابة حرب على الشمال لإخضاعه بالقوة مع احتمال انتقال الهدف التركي إلى شرق الفرات؟