يعيش العالم اليوم عهداً تطبعه الأزمة ولا تظهر له نهاية في الأفق. فقد زادت هيمنة القوميين اليمينيين والمحافظين المتدينين المتشددين.. بخاصة في عالم ما بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بدءاً من رئيس وزراء هنغاريا (فيكتور أوربن) مروراً برئيس الفيليبين (رودريغو دوتيرتي) ورئيس وزراء بولندا (ماتيوش مورافيتسكي) ورئيس البرازيل (جايير بولسونارو) وغيرهم. «الوطنية»، في نظر هؤلاء، معاييرها تقسّم المجتمع إلى مجموعتين متجانستين وعدائيتين: «الشعب النقي» و«النخبة الفاسدة». من هنا تكمن خطورة التيار الشعبوي الآخذ في تعزيز مكانته عبر كثير من دول العالم، حيث الخطاب اليميني هو الأعلى صوتاً والأشد رفضاً لأي وجهة نظر مخالفة.
منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، تصاعد طغيان الخطاب اليميني على ما سواه، حتى ضربت الشعبوية دولا من كبريات الديمقراطيات في العالم؛ كالبرازيل التي لا يخفي رئيسها حنينه لإعادة عهود الحكم السابقة متوعداً بقبضة حديدية صارمة: «لا يمكننا الاستمرار في مغازلة الاشتراكية والشيوعية وتطرف اليسار»، متعهداً أن يحكم البلاد «متّبعاً الكتاب المقدّس والدستور».
وقبل ذلك كانت أوروبا مسرحاً لصعود اليمين الشعبوي المتطرف. فقد اشتد عود هذا اليمين في العديد من بلدان القارة العجوز. وحتى إن لم يصل اليمين الشعبوي إلى الحكم في بعض الدول الأوروبية، فإنه أصبح قوة لا يستهان بها، لاسيما في فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وهولندا وإسبانيا واليونان والدانمرك وبريطانيا وألمانيا وتشيكيا وسلوفاكيا. بل إن بعض أحزاب اليمين الشعبوي هناك لم تعد تخفي توجهاتها النازية ونيتها استعادة النظم الفاشية والشمولية حال تسلمها الحكم في بلدانها. لذا بات النظام الديمقراطي في هذه الدول يعيش أزمة ظاهرة، فيما لم تعد دولة ديمقراطية في العالم بمنأى عن صعود الشعبوية. وثمة قواسم مشتركة ومتغيرات تعتبرها أحزاب اليمين الشعبوي في أنحاء أوروبا كلها تهديدات تستهدف الأمن والاستقرار الاقتصادي القومي هي ما أجبرها على الموقف الرافض حيال الآخر المختلف قومياً ودينياً. وفي هذا السياق، طرح الكاتب الأميركي بول كروجمان نظرة سوداوية، حيث كتب في مقال نشر في صحيفة «نيويورك تايمز» يقول: «بعد سقوط جدار برلين بفترة قصيرة، مازحني صديق مُختص بالعلاقات الدولية، قائلا: الآن، بعد أن تحرّرت أوروبا الشرقية من الأيديولوجيا الشيوعية، تستطيع العودة إلى مسارها التاريخي الحقيقي، أي الفاشية. وحتى في ذلك الوقت كان كلامه مجرد دعابة خفيفة. أما في العام 2018، فلا يبدو الأمر نكتة على الإطلاق». ويختم كروجمان مقاله ملخصاً أهم سبب لتصاعد الشعبوية في بلدان أوروبية، وفي الولايات المتحدة أيضاً، بالقول: «النقطة الأساسية هي أننا نُعاني من نفس المرض (العنصرية البيضاء التي تجتاح العالم)، المرض الذي استطاع تدمير الديمقراطية في دول غربية. ونحن قريبون للغاية من نقطة اللاعودة».
لكن، ما الذي منح الأحزاب والحركات الشعبوية مركز ثقل في الساحة السياسية الأوروبية؟ الأسباب عديدة، بل وتلعب أدواراً متفاوتة من دولة إلى أخرى. ففي التقرير العالمي الشامل الصادر عن منظمة «هيومان رايتس ووتش» لعام 2017، والذي جاء تحت عنوان «التزايد الخطير في النزعة الشعبوية.. هجمات على قيم حقوق الإنسان حول العالم»، أوضح التقرير: «تزايدت جاذبية الشعبويين مع تزايد غضب الناس من الأوضاع الراهنة. في الغرب، يشعر كثيرون بأنهم متخلفون عن الركب بسبب التغيرات التكنولوجية وعولمة الاقتصاد وتزايد الفوارق. تزرع أحداث الإرهاب المريعة الخوف والقلق في نفوس الناس. ولا يحس بعضهم بالارتياح في مجتمعاتهم التي صارت أكثر تنوعاً من الناحية العرقية والدينية. هناك شعور متنام بأن الحكومات تتجاهل انشغالات الناس. في مزيج السخط هذا، يزدهر بعض السياسيين، بل يمسكون بزمام السلطة، على أساس أن الحقوق تساعد فقط المتهم بالإرهاب أو طالب اللجوء على حساب الأمن والرفاه الاقتصادي والتفضيلات الثقافية للأغلبية المفترضة. وبذلك، يجعلون اللاجئين والمهاجرين والأقليات أكباش فدى. كثيراً ما تذهب الحقيقةُ ضحيةً، بينما الأهلانية (تفضيل مصالح المولودين في البلد على حقوق المهاجرين)، والعداء للأجانب، والعنصرية ومعاداة الإسلام.. في تصاعد».
ورغم إصرار العديد من الدول على تحميل الأزمة المالية وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الارتفاعَ الملحوظَ في منسوب الشعبوية، فإنه ينبغي التأكيد على أن هذه الأخيرة داخل المجتمع الأوروبي تشهد نمواً منذ ثمانينيات القرن الماضي. فوفقاً لدراسة أجرتها «ياشكا مونك» من جامعة هارفارد، بالتعاون مع «معهد التغيير العالمي» الذي يرأسه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، فإن «التصويت الشعبوي في دول الاتحاد الأوروبي، في المتوسط، في عام 2000 كان بنسبة 8.5?، لكنه بلغ 24.1% في عام 2017».‏?
الأحزاب والحركات والتيارات الشعبوية تعيش حالة صعود في كل أنحاء العالم، لكن تبقى هناك منظومة القيم الراسخة التي ما زالت -كما هو مؤمَّل- تشكل مانعاً أمامها، والمتمثلةُ في الانفتاح والتسامح ومناهضة العنصرية، وهي قيم في الأصل تتشارك فيها معظم الدول المتحضرة في العالم.