قبل سنوات عدة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تفكك الاتحاد السوفييتي مثّل كارثة جيوسياسية وإذلالاً تاماً لنخبتيه السياسية والعسكرية. وكان هدفه هو إعادة القوة والكرامة لروسيا باعتبارها البلد المحوري في الاتحاد السوفييتي السابق. وللقيام بهذا، كان هدفه الأول هو الحد من التوسع الغربي المتعاظم نحو الشرق، وإضعاف أركان التحالف الغربي، خاصة حلف «الناتو». وهذا الأمر يمكن تحقيقه من خلال تقويض الروابط الوثيقة التي تجمع الولايات المتحدة بأوروبا طيلة فترة الحرب الباردة.
ولما كان رئيس الولايات المتحدة ملتزماً بتحالف أطلسي قوي، فإنه كان من الصعب جداً على روسيا دق إسفين بين الحلفاء الغربيين. وبالتالي، فثمة أسباب وجيهة لقبول آراء وكالات الاستخبارات الغربية فيما يخص القول بأن روسيا كانت متورطة إلى حد كبير في جهود ترمي إلى إضعاف فرص المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون ودعم دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية لسنة 2016. ويشار إلى أن ترامب كان قد أوضح منذ سنوات أنه معجب ببوتين، وأن لديه مشاكل مع مستوى التزامات الدفاع الأميركية تجاه أوروبا والعبء المالي الذي يشكّله ذلك على دافع الضرائب الأميركي.
صعود ترامب جلب معه الكثير من التخوفات لدى زعماء أوروبيين وحلفاء وأصدقاء مقربين في كندا والمكسيك. ولحسن الحظ، فإن فريق ترامب للأمن القومي، لاسيما وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي الأميركي السابق إتش آر ماكماستر، كان، حتى الأمس القريب، يتقاسم الرأي السائد على نطاق واسع من أن التعاون الوثيق مع حلفاء «الناتو» يمثّل عنصراً أساسياً من الأمن القومي الأميركي. وخلال العامين الأولين من رئاسة ترامب، قام الحلفاء في «الناتو» بزيادة حجم الإنفاق على الدفاع، كما ازدادت المناورات العسكرية المشتركة في مناطق حساسة من أوروبا، مثل منطقة البلطيق. غير أن ماكماستر استُبدل بجون بولتون المحسوب على الصقور والمشهور بتبنيه لآراء تقترب من فلسفة «أميركا أولاً» التي يؤمن بها ترامب. وفضلاً عن ذلك، فإن رحيل جيمس ماتيس من المتوقع أن يحدث في المستقبل القريب.
ويأتي هذا في وقت يواجه فيه الاتحاد الأوروبي نفسُه أكبرَ تهديدات يعرفها منذ تأسيسه في عام 1993. ذلك أن البلدان الثلاثة الأقوى في الاتحاد، وهي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، جميعها تواجه أزمات داخلية وقياداتها أُضعفت، في حين أن بعض الأعضاء الجدد، مثل بولندا والمجر، يتبنون أساليب في مجال الحكم لا تتماشى مع مفهوم الديمقراطية الليبرالية الأوروبي.
فالزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل، مثلًا، وافقت على فتح حدود بلادها أمام أكثر من مليون لاجئ من الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا خلال الفترة ما بين عامي 2015 و2017. غير أنه تبين لاحقاً بأن هذا القرار غير شعبي للغاية. وفي الانتخابات المحلية الأخيرة، تكبد حزب ميركل «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» خسائر مهمة. وفي هذا الأثناء أيضاً، أعلنت ميركل اعتزامها التنحي كزعيمة للحزب في شهر ديسمبر المقبل، ما يجعل من بقائها كمستشارة ألمانية حتى عام 2021 محل شك.
وبالمثل، يعاني نظيرها وحليفها في فرنسا، إيمانويل ماكرون، من تحديات تُعزى إلى جهوده الرامية إلى إصلاح النظام الاقتصادي الفرنسي التقليدي. وإن كان ماكرون ما زال يمثّل صوتاً مهماً في الشؤون الدولية، فإن بعض المشكلات الداخلية أخذت تُلقي بظلالها على حكومته.
غير أن الأسوأ من ذلك هو محنة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. فقيادتها لحزب المحافظين باتت معلقة بخيط واهٍ للغاية بسبب المفاوضات الصعبة والمرة جداً التي تجريها حول الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت) مع مفاوضي الاتحاد الأوروبي ومع المنتقدين داخل حزبها. ونتيجة لذلك، فإنها قد لا تظل في منصبها كرئيسة للوزراء طويلاً.
وعيله، فإن افتقار ترامب للشعبية في أوروبا وأزمة الزعامة فيها لابد أنهما يمثّلان أخباراً سارة بالنسبة للرئيس بوتين. إلا أنه ما زال من غير المعروف ما إن كانت لديه القوة الآن لإعادة التفاوض حول شروط جديدة للعقوبات المفروضة على روسيا عقب ضمها شبه جزيرة القرم في عام 2014 والتدخل الروسي شبه العسكري في شرق أوكرانيا. ومن الواضح أنه يأمل أن يستطيع ترامب مساعدته، غير أن افتقاره الكبير للشعبية داخل الكونجرس الأميركي سيزداد على الأرجح مع الانضمام الجديد لديمقراطيين يمقتون أساليبه السياسية والأمنية. وإذا أشارت التحقيقات الحالية التي يجريها المحقق الخاص روبرت مولر في علاقات ترامب مع روسيا إلى أعمال منافية للقانون، فإن ترامب نفسه سيكون غير قادر على مساعدة صديقه بوتين، وصداقتهما المشهورة قد تتلاشى.