لا يمكن تجاهل العلاقات الظاهرة والخفية بين الإعلام الجديد كواسطة أو وسيلة وبين التصورات الفكرية التي تحكم التصرفات البشر في كل القضايا، وتهندس رؤيتهم حيال جميع الظواهر الإنسانية، وتجلي مواقفهم وتوجهاتهم إزاء ما يجري من وقائع وأحداث وحوادث، بصرف النظر عن أهميتها وحيويتها وضرورتها ودرجة الانشغال بها ومستوى تأثيرها على مصالح الناس.
في البداية اقتصرت الرؤية لدور الإعلام على أنه مجرد ناقل للمعرفة وليس منتجاً لها، فهو الوعاء الذي نملأه بما نريد من رسائل عبر كلمات وصور ورسوم ورموز، ونحن فقط الذين نتحكم في طبيعة هذه الرسالة من حيث حمولاتها ومعانيها وقيمها ورؤاها ومقاصدها وأهدافها، ونحدد المستهدفين منها، وليس عليه سوى أن يمتثل طائعاً خاضعاً تماماً لما نريد، لا حول له ولا طول. لكن هذا التصور لم يعد قابلاً للصمود في زمن الإعلام الجديد، الذي يتجاوز دوره كأداة طيعة، ويساهم في تشكيل الرسالة، متكئاً على النظرية التي يبرهن أصحابها على أن الشكل لا ينفصل عن المضمون.
فحتى لو اعتبرنا الإعلام آلة، نحن الذين نضع لها خطة التشغيل، ونُعَّين ما ندفعه إليها، ونعرف كيف تدور تروسها، وما سيخرج منها كسلعة أو منتج قابلاً للاستهلاك، فإننا لا يمكن أن ننكر أن هذه الآلة تعمل، بمرور الوقت، على تشكيل أذهاننا، وطريقة نظرتنا إلى الحياة وللظواهر والمعارف، وقد تمدنا بجزء من تصورنا عن ذواتنا، وبعض القيم التي تحكمنا، وهي مسألة أقر بها الإنسان بعد طول تعامل مع مختلف الآلات. وإذا كان الإعلام التقليدي، الذي تقل فيه درجات التأثير المتبادل والتغذية المرتدة، لم يفلح في إقناع كثيرين بأنه ليس مجرد وعاء أو إناء، فإن الإعلام الجديد فعل هذا، بقدرته على جذب أعداداً هائلة من البشر ليمارسوا دور "المواطن الصحفي" سواء أدركوا هذا أم لم يدركوه، وقد نجح كثيرون منهم في رفع وبث مادة ذات بال على مواقع التواصل الاجتماعي، لفتت انتباه الإعلام التقليدي، فنقلتها البرامج المتلفزة، وكُتبت حولها المقالات والتحقيقات الصحفية.
وقد كان واضحاً منذ البداية أن التغير سيأتي هائلًا، مع ظهور الإعلام الجديد، وستحدث قفزة عملاقة في تاريخ البشرية، مثل تلك التي وقعت حين عرف الإنسان كيف يزرع الأرض، ويخزن الطعام، وحين اخترعت الكتابة، وظهرت أول مطبعة، واخترع الصينيون البارود، واكتُشفت الكهرباء. فالإنترنت أحدث ويحدث وسيحدث تغييرات عميقة في الاقتصاد والمجتمع، وما يمور فيه من أفكار وحركات.
وإلى جانب تأثيره في المسائل الخاصة بالتقارب بين الناس، وانسياب الأفكار وطرائق العيش، وسيادة الدول، والحروب الذكية، يمارس الإعلام الجديد ثلاثة أمور أساسية أثرت في القيم والتصورات والاتجاهات، الأول يتعلق بتعزيز التفكير الشبكي، وهي طريقة تعترف بالتجاور والتعدد والتشابك والتناظر، بدلا من التفكير الخطي، الذي ينطلق بين نقطتين، علوية وسفلية، أو جنوبية وشمالية، أي رأسية وأفقية، وهي التي تآلف معها التفكير البشري زمناً طويلًا. والثاني يرتبط بفتح باب المشاركة وتسهيل الفواصل بين النخبة والجمهور، فقديماً كان من الصعب على قارئ أن يتواصل مع كاتب بارز، أما الآن فبوسعه أن يعلق على ما يكتبه على مواقع التواصل الاجتماعي ويراسله على بريده الخاص. والثالث يتمثل في تحرير الأذهان، فمن قبل كان المتلقي يستقبل الرسالة وقد يستحسنها لأنه لم يفكر في نقائصها، ولا يعرف بديلا لها، أما الآن فإنه يجد، وفي سرعة شديدة، آخرين يرممون له ما يعانيه من نقص حيال فهم الرسالة واستيعابها، وقد تؤدي تعليقاتهم عليها إلا أفول سحرها، وانطفاء بريقها، والأهم هو تقليل قدسيتها وإطلاقيتها ووثوقيتها في ذهن المتلقي بسيط المعرفة.
عند هذا الحد يكون الإعلام الجديد هو ابن شرعي لليبرالية، لاسيما في قيمها الأساسية التي ترتكز على المواطنة، والمراكز القانونية المتساوية، والمشاركة الواسعة، واحترام حرية التفكير والتعبير والتدبير، والانفتاح على الآخر، والتعددية، واللامركزية، والمساءلة، والشفافية، والسوق المفتوحة، والحكومات المفتوحة.. الخ. ومع هذا لا يزال من المبكر جداً معرفة ما إذا كانت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية سينظر إليها بدرجة أكبر باعتبارها أدوات للتحرر أو أدوات للسيطرة الاجتماعية والسياسية، بعد أن التفتت النظم المستبدة إلى أهميتها واستعملتها في الحرب على الحرية.